د.حمزة الحساني
ينفرد هذا البلد الأمين، بمؤسسة قائمة لرعاية شؤون الدين والدنيا، تستنبط اسمها من اجتهاد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وشرعيتها ومشروعيتها من كتاب الله عز وجل، ألا وهي مؤسسة إمارة المؤمنين؛ هذه السنة نُتم ربع قرن في مرحلة أمير المؤمنين حامي حمى الملة والدين، أداء لمهامه، وقياما بشؤونه، وهي فرصة للتوقف مع هذه المؤسسة الشريفة، وبيان بعض خصوصياتها ومنجزاتها، في المجال الروحي عامة، بمفهومه الواسع، بسعة مؤسسة إمارة المؤمنين، الشاملة للإيمان بكل أبعاده وتمظهراته، وشتى طرق السير إلى الحق سبحانه، عبر الديانات السماوية.
- أهمية النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحقيق معنى الموالاة:
يتزامن عيد العرش هذه السنة الكريمة مع مفتتح السنة الهجرية، التي تذكرنا ببعض الأدوار والمهام التي أداها المصطفى صلى الله عليه وءاله وسلم، في وضع لبِنات الدولة، سواء ما تعلق بأمور الدين أو أمور الدنيا، فمهام النبي متعددة، وهي ما يتوارثه من جاء بعده، وقام مقامه في شؤون الأمة، ومن نماذج مهامه عند دخول المدينة صلى الله عليه وءاله وسلم (بناء المسجد، المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وثيقة المدينة -الدستور المدني- لترتيب الحياة بين المسلمين واليهود والدفاع عن بعضهم البعض للعيش بسلام في وطن مشترك هو المدينة، وضع وثيقة السوق والاقتصاد لضبط التجارة والمعاملات المالية -بمثابة قانون المالية حاليا- إصلاح مياه المدينة التي تسببت في كثير من الأمراض والوفيات كتدبير وعلاج للماء …) هذه المهام دالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رجل دعوة ودولة، في الآن الواحد، وهو السند والأصل لمؤسسة إمارة المؤمنين، وليس مبدأ “ما لله لله وما لقيصر لقيصر”. في الأصل أمير المؤمنين، هو خليفة رسول الله في أمته، كما سمي بذلك أول الأمر سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فلما التحق بربه وجاءت مرحلة سيدنا عمر، كان من المفروض أن يكون خليفة خليفة رسول الله، ولكنه باجتهاده الحكيم، أبدع مسمى أمير المؤمنين، فكان أول من تسمى بذلك؛ من هذا يظهر عمق هذه المؤسسة وأصالتها، وثقل مسؤوليتها، دينا ودنيا، في قيام الولي بشؤون النبي، والحرص على مصلحة الأمة في حفظ دينها ودنياها، وهو الأمر الذي عاشته الأمة المغربية مع مولانا أمير المؤمنين محمد السادس، أيده الله وللخير وفقه، الذي يحاول التوازن في أداء مهامه وأموره، سواء الشأن الديني وتدبيره باعتباره رئيس المجلس العلمي الأعلى، أو الدولة ومؤسساتها باعتباره رئيس الدولة، نحو الريادة والتألق، وهو ما يجني نتائجه المغاربة حاليا، وما زال السير بعناية الله ولطفه في تقدم.
- التصوف روح الدين:
يحرص أمير المؤمنين، من خلال المؤسسات الرسمية، في تدبير الشأن الديني، بالتركيز على روح الدين، وعدم الاكتفاء بالقشور، مثل كثير من التجارب الدينية، التي لا تُجدي نفعا، ولا يُرجى بها تفعيل للوحي في واقع الناس، وبهذا تميزت التجربة التديُّنية المغربية، القائمة على التدين عن حرية، لا عن إكراه، رغبة لا إرغاما، وثوابت الأمة التي يعمل على إرسائها أمير المؤمنين، قائمة على ذلك، بالعقيدة الأشعرية المستمسكة بالعقل والنقل، والفقه المالكي القائم على السماحة وروح عمل أهل المدينة، والتصوف السني المحرر للإنسان من قيود السير المعوجّ، ومؤسسة إمارة المؤمنين الراعي والضامن لحفظ روح الدين، وصونه من عبث العابثين، مستمسكا بنور شِرعة جده الأمين، صلى الله عليه وءاله وسلم، متحققا بدعوة المولى عبد السلام بن مشيش قدس الله روحه: (اللهم ألحقني بنسبه، وحققني بحسبه) حتى يكون الفرع كأصله، وتتحقق الجمعية الكاملة، والنيابة الشاملة.
- إحياء العمارة وتحقيق الإمارة:
في المجال الديني عامة، حرص جلالة الملك طيلة مرحلته، على إضافات نوعية، وعلى تجديد وتشييد كثير من البنى التحتية الروحية، سواء تعلق الأمر بالمساجد أو الزوايا أو الأضرحة وخلوات الصالحين، لتحقيق المعنى الشامل لبيوت الله، وصيانتها والعناية بها وترميمها، كل هذا عناية بالعمارة التي استخلفه الله فيها، سواء تعلق الأمر بالمدن أو القرى، إذ تُشيد وتُجدد العديد من المساجد سنويا، وتصرف لها مصاريفها الخاصة، من إصلاح وترميم، وعناية بالقيمين عليها، وأفرد لهم مؤسسة خاصة بهم: (مؤسسة محمد السادس للقيمين الدينين)، كما تعطى تكريمات خاصة للمحسنين الذي ساهموا في هذه العمارة، اعترافا بجميل ما قدموا، فتكون لهم في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، إلى جانب هذا يحرص جلالته على العناية بالمصحف المحمدي الشريف، طبعا ونشرا عبر مؤسسة خاصة، تحمل اسمه الكريم: (مؤسسة محمد السادس لنشر المصحف الشريف)
هذا الأمر بالتأكيد يتعلق بداخل التراب المغربي، وبالفهم العميق لعالمية الدعوة، إذ يرتبط أمر المساجد والعناية بها، ونشر المصحف الشريف، بالعديد من دول العالم، افريقية وأوربية وغير ذلك، كل ذلك من كريم العناية للمولى أمير المؤمنين بهذا المجال.
إذا تحدثنا عن افريقيا خاصة، وما لها من ارتباطات روحية تاريخية بالمملكة الشريفة، فإننا نتحدث كذلك عن حرص جلالته على إقامة مؤسسة خاصة تحمل اسمه الشريف، (مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة) للعناية بعلماء افريقيا وضبط أمور القارة فقها وشرعا، وما تعلق بمستجدات الفتوى، وهي التفاتة حكيمة منه، لخلق مخزون احتياطي وسط قارة لا تضيع بها الودائع الروحية، اقتداء بجده صلى الله عليه وءاله سلم يوم أرسل وفدا ومخزونا احتياطيا لحفظ الدين -إن قضت عليه العرب أو ما جاورها من الحضارات- إلى افريقيا وتحديدا بدولة اثيوبيا -الحبشة-.
في الزمن المعاصر، كثر القيل والقال، والدعاة باسم أحاديث، وسنة غير معلومة، بعضها مكذوب، وبعضها الآخر ضعيف، وبعضها الثالث يساء فهمه وتنزيله وإن صح عن المصطفى صلى الله عليه وءاله وسلم قولا، فكان حرص أمير المؤمنين على إقامة وسيلة ناجعة تناسب الزمن المعاصر، وتضبط هذا الانفلات، فكان الإبداع هو إنشاء منصة الكترونية تناسب الهواتف والأجهزة الذكية، لحفظ قول وفعل المصطفى صلى الله عليه وءاله وسلم من انتحالات المبطلين، ودعاة فتَّانين، والجهود بها قائمة صيانة وتحسينا، تحت مسمى (منصة محمد السادس للحديث الشريف).
عندما تولى أمير المؤمنين أمر الأمة، كان الإعلام الديني، في أوجه، ولحساسية المجال، وخطورة تأثيره وتأثره، بالشرق أو الغرب، ارتأى جلالته تأسيس إعلام ديني مغربي، يحفظ الهوية والخصوصية، ويحقق الاكتفاء الذاتي بالمجال، فكانت مؤسسة السادسة انطلاقة موفقة من تشييده حفظه الله، بالإذاعة والتلفزة، ومَردها هو مَردّ الفتوى بالمملكة، المجلس العلمي الأعلى الذي يترأسه أمير المؤمنين.
هذا الإحياء للعمارة التي تعمر وتخدم الدين، ماديا ومعنويا، هي وسائل فعلية تطبيقية، لتحقيق مفهوم ومعنى الإمارة المتحدث عن أهميته وقيمته سلفا.
- مرونة المواكبة رهينة المحافظة على الهوية:
التدبير للمجال الديني بالمملكة الشريفة يسير مع العالم، في سيرورته، ويتغير مع المتغيرات، فهو تدين ابن وقته، ويعيش مرحلته، إلا أن يُحل حلال، أو يُحرم حرام، وحين نتحدث عن موضوع الحلال والحرام فالحكم فيه لله حصرا بنص القرءان، ولا مجال لتحليل الحرام، أو تحريم الحلال، ما لم يأذن الله بذلك، بنص مُحكم قطعي الثبوت والدلالة.
المواكبة هي مرونة وقوة الشريعة الإسلامية، فهي لا تتسم بالجمود، كما أنها لا تتسم بالانسلاخ أيضا، إذ حفظ الهوية الدينية والوطنية والثقافية أمر مقدس، يؤطر ذلك كلام الله عز وجل، المؤَصِّل للحضارة والبناء، لا الجمود والاتكاء، وهو ما يحرص عليه مولانا أمير المؤمنين في تثبيت وتنزيل وتسديد البلاغ عن الحق، ومواكبة تغيرات العالم وتطوراته، لنعيش لزمننا، كإبداعه في تسمية القطار الفائق السرعة، بمسمى يحمل دلالة شرعية من حياة المصطفى صلى الله عليه وءاله وسلم، ومرحلة من مراحل طي الزمان في الانتقال، فإذا فهمنا هذه الإشارة، أدركنا كيف تسير الأمور بهذا البلد الأمين، وكيف هو تصور مؤسسة إمارة المؤمنين لحفظ الهوية، وخدمة شؤون الأمة.