خالد الرابطي
لم يأبه أحد بالأصوات التي تعالت منذ أن أصيبت طنجة بداء الإسمنت، أو كما سبق و أن سميناه بسعار العقار و تعالي البنيان ،مطالبة بالعمل على إيقاف هذا النزيف المتزايد من الصناديق الإسمنتية التي صارت تتوالد يوما بعد يوم، حارمة العباد مما منحهم الله من خضرة الأرض و دفئ الشمس و نسيم الهواء العليل، و محذرين مما صرنا نلمسه – و لو أن خبرتنا في هذا الميدان جد متواضعة- من ضعف في الأساسات و القواعد و عدم اتخاذ الإحتياطات اللازمة ،خصوصا في المباني القريبة من الشوارع الرئيسية و التي غالبا ما تكون معرضة للصدمات بفعل حركة مرور العربات المختلفة في الحجم و الوزن، و عدم الالتزام بالرسومات الهندسية خصوصا فيما يتعلق بالعلو و زيادة الطبقات و النصف طبقة ثم الربع طبقة… في عمليات تحايل على مساطير الرخص، والتي للأسف يتم منحها بطرق لا يعلمها إلا من يحمل في جيبه طابعا و تفويضا للتوقيع في أي مكان و زمان، ولو في المقاهي أو حتى خارج أرض الوطن.
إن فاجعة السبت الماضي ،و التي حدثت بشارع يوسف ابن تاشفين من انهيار لجزء من حائط الدعم لعمارة أو برج في طور الانجاز، لم تكن الأولى من نوعها، فقد سبقتها حوادث كثيرة، لكنها الأفظع نظرا لتواجدها وسط المدينة في يوم كان الناس في عطلة مما جعل الكل يتوجه إلى الموقع لمعاينة ما حدث بالفعل ،بعدما تضاربت الأنباء عن حصيلة الضحايا التي قالت عنها إحدى القنوات الإذاعية أنها في حدود 25 قتيلا، بينما كانت الحقيقة و من ألطاف الله ثلاثة رجال قضوا تحت كتل من الاسمنت و الرمال و المياه في سبيل لقمة العيش و أي لقمة ! في يوم من المفروض أنه عيد وطني، أي عطلة مؤدّاً عنها طبقا لقانون الشغل، و لا ندري ما موقف شركة التأمين في هذا الشأن، خصوصا و أن أسباب الحادث لازالت موضوع بحث تقني يقوم به المختصون في هذا المجال.
و في استباق لنتائج البحث ،و سابقة من نوعها، أصدر المجلس الجهوي لهيئة المهندسين المعماريين و جمعية مكاتب الدراسات بالشمال و فرع النقابة الوطنية للمهندسين بلاغا صحفيا لم يصدروه في وقائع مماثلة من قبل. يقول البلاغ أن دراسات وتدابير احترازية خاصة متعلقة بحائط الدعم المحاذي للطريق العمومية تم اعتمادها مسبقا من أجل تأمين محيط الورش و سلامة العموم. و العكس هو الذي حصل حيث أن حائط الدعم أو ما يسمى بلغة الهندسة ب le voile– انهار وسبب في مقتل ثلاثة عمال ،فلا هو أمن محيط الورش، و لا هو حافظ على سلامة العموم . ثم يتابع البلاغ ليقول بأن الحادث ناجم عن تسرب مياه من قناة محاذية للورش تم بشارع يوسف بن تاشفين أحدثت ضغطا قويا و مفاجئا و غير متوقع على جنبات التربة ،مما تسبب في انهيارها و انجرافها داخل الورش . و ما جدوى هذا الحائط إن لم يستطع الوقوف سدا منيعا في وجه أي ما من شأنه أن يؤثر على سلامة الورش ولو كان تسربا قويا للمياه.
لقد ذكر البلاغ أربع نقط أساسية و كأنه بذلك أخلى سبيل المسؤولين عن الورش و نزع عنهم مسؤولية ما حدث،لكن الأمر من منظورنا يختلف عن ذلك، كوننا نرى أن المسؤولية مشتركة بين كل المتداخلين في المشروع، بدءا من السلطات العمومية و التي تتحمل مسؤولية عدم إلزامية رخصة الحفر على كل مشروع قبل انطلاق الأشغال به، و يشاركها فيها الرباعي التقني و هم : المهندس المعماري، مكتب الدراسات ، مكتب المراقبة ، ومختبر التحاليل و التجارب، فهم ملزمون بضمان استيفاء الشروط المطلوبة لبدئ العمل، و عدم التهاون في تقييم الأخطار المحتملة ،و ذلك بالقيام بدراسات تقنية تأخذ بعين الاعتبار استقرار و سلامة المباني المجاورة و المنشآت الفنية المحيطة بأرض المشروع، من قنوات الماء الصالح للشرب و الصرف الصحي و الأسلاك الكهربائية و خطوط الهاتف، و دراسة حركة المرور بالشوارع المحاذية، مع ما يمكن أن تحدثه من هزات و تصدعات بفعل حركة السير، و ذلك باعتماد الآليات الحديثة كالتذريع مثلا (les blindages) دون تعريض العمال لأي خطر ممكن حدوثه. و هنا تدخل مسؤولية صاحب المشروع و الذي و بفعل التقشف والاقتصاد في النفقات، و الرغبة في إنجاز المشاريع بأقل تكلفة رغم ما تدر عليه من أرباح بالأبيض و الأسود، يعتمد في تنفيذها على المقاولين الذين يفوزون بالمناقصات بأقل ثمن ممكن، مما يمنعهم من تطوير طرق عملهم و استعمال الآلات الحديثة في انجاز أخطر الأعمال و التي يعتمدون فيها على العنصر البشري و الذي هو أغلى من أي رقم مالي.
إننا في زمن تطورت فيه الآلات و تسارعت فيه وتيرة الأشغال و أصبحت فيه الأوراش في مأمن عن كل ما يمكن أن يحدق بالعمال من أخطار.لا زلنا نسمع عن أنباء مفزعة تحدث هنا و هناك ،ثم نتراشق الاتهامات،و نتحصر على ما فات ، و كان بالمكان تفادي كل ذلك بتحكيم الضمائر، و التدقيق في كل صغيرة و كبيرة، و عدم الاقتصاد فيما هو ضروري، و إعطاء كل عمل حقه من الاهتمام . و لا يسعنا في الأخير إلا أن نتقدم لأسر الضحايا بأحر تعازينا الخالصة،و إنا لله وإنا إليه راجعون.