في الأزقة المتعرجة للمدينة القديمة، حيث تختلط رائحة البحر بنسيم الزمن البعيد، لا تزال البانسيونات قائمة كحراس صامتين لذاكرة طنجة، تقدم للزائر إقامة بسيطة، لكنها محملة بروح المكان.
لا تزال هذه البيوت الصغيرة، التي احتضنت ذات يوم كُتّابًا رحالة وشعراء متجولين، تفتح أبوابها لأولئك الذين لا يبحثون عن إقامة فاخرة، بل عن تجربة تتيح لهم أن يكونوا جزءًا من نسيج المدينة، أن يستيقظوا على وقع الخطى على الحصى العتيق، وأن يناموا على أصداء الحكايات التي يرويها المساء.
في أحد هذه البنسيونات، الضوء يتسلل من نوافذ مزخرفة، يعبر الأقمشة المنسدلة على الأرائك العتيقة، يراقص غبار الزمن المتطاير في فضاء الغرفة.
جدران مزينة بزليج مغربي فقد بعضًا من بريقه، لكنه لا يزال يحتفظ بوهج الذكريات. طاولات خشبية تئن تحت ثقل فناجين الشاي المنعنع، وسجاد بألوان دافئة يروي قصص أقدام مرت فوقه من كل بقاع الأرض. هنا، لا شيء متكلف، كل شيء بسيط لكنه يحمل بين طياته سحرًا لا يمنحه الإسراف ولا البهرجة.
وفي هذا الركن المنسي من الزمن، تدور الحياة بوتيرة مختلفة. صباح البانسيون يبدأ على وقع أصوات المدينة المتسللة من الخارج: بائع ينادي على سلعته، مؤذن يرفع صوته في أزقة ما زالت نائمة، ووقع خطوات سياح يبحثون عن زوايا لم تلتقطها عدساتهم بعد. وعلى الطاولة، فطور مغربي بسيط: خبز طازج، زيت زيتون معصور حديثًا، عسل برائحة الزهور البرية، وشاي ساخن يملأ الجو برائحة النعناع الطازج.
النزلاء، بعضهم رحالة يحملون دفاتر مذكراتهم، وبعضهم عشاق سفر هربوا من ضجيج المدن الحديثة، يجلسون في صمت يتأملون المشهد، كأنهم يخشون أن يوقظوا سحر اللحظة.
لكن الزمن لا يتوقف، والتحديات تفرض نفسها. فبين ضغط المنافسة التي تفرضها الفنادق الفاخرة والشقق السياحية الحديثة، يجد أصحاب هذه البانسيونات أنفسهم عالقين بين الحفاظ على أصالة المكان والاستجابة لمتطلبات المسافرين العصريين.
وتتحدث صاحبة أحد هذه البانسيونات، بلهجة يملؤها الحنين: “نحن لا نبيع مجرد غرفة، نحن نمنح الناس فرصة ليعيشوا طنجة كما هي، بلا أقنعة ولا تصنع. لكنهم اليوم يريدون خدمة إنترنت أسرع، وسائل راحة أكثر، وهذا ليس ما بُنيت عليه هذه الأماكن”.
ورغم كل شيء، تظل البانسيونات ملاذًا لأولئك الذين يبحثون عن أكثر من مجرد سرير للنوم. بالنسبة لهم، الإقامة في هذه البيوت ليست مجرد خيار اقتصادي، بل هي طريقة لاستعادة شيء من روح السفر كما كان يومًا: ببطء، بعفوية، وبقلب مفتوح للحكايات التي تحملها جدران صامتة.
وبينما يتغير وجه طنجة يومًا بعد يوم، تظل هذه البانسيونات كأنها جيوب زمنية تقاوم النسيان، تحرس أسرار العابرين، وتهمس لهم بأن المدن لا تُرى بعيون العابرين المستعجلين، بل تُعاش بكل تفاصيلها المختبئة في الزوايا المنسية.