لا شيء يبعث على الحزن اكثر من ان يكون القبر قريبا لكن الطريق اليه محاصر بالاسلاك والجدران الاسمنتية. عند تخوم حي بينزو في مدينة سبتة المحتلة، تقف عائلات مغربية عاجزة امام واقع مرير فرضته التحولات الامنية والقيود التي تفرضها السلطات الإسبانية حيث اصبح مجرد الوصول الى مقابر الاجداد في بليونش امرا بالغ التعقيد
محمد، وهو رجل ستيني، يكتفي كل يوم جمعة بالوقوف قبالة السياج الفاصل. يضع يده على صدره ويتمتم بدعاء خافت قبل ان يعود ادراجه بصمت.
منذ وفاة والدته قبل عام، لم يتمكن من زيارة قبرها. “المسافة بيننا لا تتجاوز مئات الامتار، لكن الحواجز صنعت منها عالما اخر”، يقول بصوت منكسر
منذ سنوات، كانت الزيارات الى بليونش لزيارة المقابر تجري بشكل اعتيادي، اذ يكفي التنقل سيرا عبر المسالك الجبلية القريبة. اما اليوم، فقد اصبحت كل محاولة تتطلب المرور عبر الممر المسيطر عليه من طرف السلطات الإسبانية، ثم استقلال سيارة خاصة عبر الفنيدق نحو الجبل المطل على القرية. رحلة طويلة قد تستغرق ساعات وتتطلب اجراءات ادارية وتكاليف تفوق قدرة كثيرين
عبد السلام، شاب في الثلاثينات من عمره، فقد والده قبل بضعة اشهر. يؤكد انه اضطر الى الانتظار ثلاثة اسابيع قبل ان يحصل على ترخيص استثنائي للعبور وحضور مراسم الدفن في بليونش. “لا افهم لماذا نعامل بهذه القسوة”، يقول وهو يعرض مجموعة من الوثائق التي احتاجها لاستخراج الترخيص، “مجرد وداع اب ليس جريمة”
الامر لا يقتصر على صعوبة الزيارة فحسب، بل ان الاجراءات الادارية المعقدة دفعت العديد من الاسر الى التفكير في حلول بديلة، بعضها لا يحترم الطقوس الدينية المتعارف عليها.
فاطمة، احدى السيدات من سكان الحي، تقول ان احد جيرانها اضطر الى دفن والدته داخل المدينة المحتلة في مدفن غير مخصص للمسلمين بعد تعذر استكمال الاجراءات اللازمة للنقل. “لم يكن امامه خيار اخر”، تقول، “الوقت كان ضيقا والتكاليف لا تطاق”
منذ ان شددت السلطات الاسبانية مراقبتها على الممرات المؤدية الى المناطق المجاورة، تراجعت بشكل كبير فرص الزيارات الفردية للمقابر الواقعة في عمق الوطن. ورغم ان بعض المبادرات سمحت مؤقتا بفتح ممر انساني للزيارات كل اسبوعين، الا ان هذه الخطوة توقفت دون سابق انذار، ما اعاد حالة الاحباط الى الواجهة
ولم تتجاوب السلطات الإسبانية، مع المقترحات المقدمة من المجتمع المدني، ومنها طلب تخصيص فضاء جنائزي خاص بالمغاربة المسلمين داخل المدينة، يحفظ كرامتهم ويخفف معاناة اسرهم.
جمعية بينزو وجهت عدة مراسلات في هذا الصدد، لكن الرد ظل غائبا، في وقت تتزايد فيه حالات الوفاة وسط جالية تتقدم في السن
بالنسبة للرباط، فان استمرار هذه الممارسات لا ينفصل عن الوضع القانوني والسيادي لمدينة سبتة. فالى جانب البعد الانساني، تسعى المملكة الى كشف الطابع غير الطبيعي للقيود المفروضة على المغاربة داخل المدينة المحتلة، سواء تعلق الامر بحرية الحركة او بممارسة الشعائر المرتبطة بالموت. فالمقبرة ليست فقط مكانا للدفن، بل امتداد لارتباط الناس بارضهم وذاكرتهم
في المقابل، تعتمد الدبلوماسية المغربية نهجا هادئا لكنه متراكم، يركز على تسجيل هذه الحالات ضمن خانة الانتهاكات الصامتة التي يعيشها السكان. وهو توجه يعكس ايمانا بان استعادة الحقوق لا تمر فقط عبر المواجهة السياسية، بل ايضا من خلال التوثيق الانساني للمعاناة اليومية
في كل جمعة، تتكرر نفس المشاهد. رجال ونساء من بينزو يقفون قبالة السياج العسكري، يلوحون بايديهم نحو نقطة غير مرئية. هناك، على السفح المقابل، ترقد اجساد اقربائهم في سكون، فيما تمنعهم السياسات المفروضة من القاء وردة، او قراءة الفاتحة قرب شاهد القبر. ورغم الصمت الذي يلف المكان، فان صدى هذا الحزن يطرق ابواب الضمير المغربي كل يوم.