في مقابل الموتى شيء من التفاوت الطبقي الذي يعيشه أحياء هذا البلد بين قبور الفقراء التي تبدأ من 70 درها للقبر، إلى قبور الميسورين التي إلى أزيد من 25 مليون سنتيم “أوال” تأخذكم في زيارة على مقبرة الرحمة بالدار البيضاء اخر مسكن للجسم عندما تعود الروح إلى باريها. الساعة تشير الى الـ9 صباحا سكون مقبرة الرحمة بالدار البيضاء يعطي احساسا بالرهبة والخشوع، في جو رطب بعد ليلة خريفية ماطرة.ساق يروي قبرا، رغم انه لا يزال مبللا، لجني المال من شاب يقرأ بعضا من القران على قبر قريبه. يعطي سكون المكان انطباعا بأنه لا وجود إلا للموتى والأشجار، هذه الأخيرة التي يمنح صوت حفيف أوراقها للمكان شيئا من الحياة رغم الموت. وفجأة،انبعثت أصوات بكاء وأنين من وسط القبور لنساء جئنا لزيارة قبر قريب لهن، في طقس يطلق عليه”التفاريق”، أي الزيارة الأولى للنساء بعد دفن الميت بغية توديعه. وحين كانت العائلة تزاول طقوس الزيارة، علت صيحة فتاة. الكل توجه ليعرف مالذي يجري.بالقرب من قبر حديث،فتاة في مقتبل العمر رفقة زوجها الذي كان يحتضنها في وقت أجهشت فيه بالبكاء، ثم أغمي عليها، بقيت على هذه الحال دقائق معدودة، وعندما استيقظت اخبرنا زوجها بأنها لم تستطع تحمل سرقة الشاهد من على قبر والدتها. عائشة، الفتاة التي أغمي عليها، قالت إن هذا الأمر ليس من عمل إنسان يحترم حرمة الموتى وأحاسيس عائلاتهم. تبديل شواهد القبور أو حتى سرقتها، ليس بالأمر الجديد على مقبرة الرحمة وباقي المقابر في المملكة.فمنذ عدة أيام عاشت المقبرة حالة استنفار بسبب تغير أحد الشواهد . ويروي سعيد، الذي يعمل حفارا بالمقبرة، أن ” أسرة صدمت عندما وجدوا شاهد قبر والدتهم يحمل اسم رجل مما جعلهم في حيرة من أمرهم ظنا منهم أن الجثة التي دفنت قبل أيام قليلة نقلت من مكنها”.لكن يروي المتحدث ان إدارة المقبرة أعادت إعطاءهم رقم القبر ورخصوا لهم بتجديد الشاهد. قبور الفقراء بين القبور” العادية”في مقبرة الرحمة، تنعدم الرحمة الإنسانية. فالعديد من القبور أزيل الشاهد عنها، تاركين القبر مجرد كومة من تراب دون أدنى تعريف، ومعرضين عائلات الموتى لصدمة عدم وجود قبر قريبهم عائشة، التي صدمت هي وزوجها لعدم وجود الشاهد على قبر.والدتها.قالت إنه “لولى أن القبر يوجد في زاوية لما استطاعوا التعرف عليه”. وأردفت، وهي في حالة من الحزن:” نحن الفقراء ليس لنا الحق حتى في قبر يحترم إنسانيتا، انظروا إلى هذه الحالة التي يعيشها قبور الطبقة الفقيرة تتعرض لنهب الشواهد،شيء يؤكده سعيد،حفار القبور، وذلك بغية إعادة وضعها على القبور الجديدة، إن لم يوجد شاهد لاستعماله. هذه القبور، التي تقتنيها عائلات الموتى بقيمة مالية تتراوح بين 70 درهما و 160 درهما، معرضة أيضا للتخريب، فالعديد من القبور التي مررنا عليها لاحضنا أن شواهدها محطمة، الشيئ الذي يبرره العاملون في المقبرة، يتسلل بعض الأشخاص إلى المقبرة ليلا لشرب الخمر، أو حتى المبيت فيها. أما الحالة العاملة لهذه القبور فهي جد عادية، وأغلبها عبارة عن كومة من تراب وشاهد مكتوب عليه رقم القبر،ومنها من لا يحمل حتى اسم صاحب القبر. ويرجع مسؤول من إدارة المقبرة ذلك إلى فقر أسر الموتى، الذين لا تسمح لهم الإمكانيات المالية بالبناء فوق القبر، قائلا: ” تزيين القبر ليس مهما، لأن الإنسان حين يموت ينقطع عمله، والمهم هو وضع الرقم على شاهد القبر، وهذا هو الواجب”. الطبقة المتوسطة وسط قبور الفقراء، هناك قبور يمكن أن يطلق عليها اسم” قبور الطبقة المتوسطة”.وهي قبور لها مواصفات خاصة ويمكن التعرف عليها بالبناء فوق القبر، وبالزليج والزخارف على الشواهد. مكلف بالبناء حدد ثمن هذه الزينة ابتداء من 400 درهم للقبور المزينة بالزليج العادي،إلى 3 الاف درهم للقبور التي تزين بالرخام، ويمكن ان تصل إلى أكثر من هذا الثمن إن كان الرخام مستوردا من أوروبا.لكن الشواهد الرخامية عادة ما تسرف لإعادة بيع الرخام في السوق السوداء بعد مسح اسم الميت منها، الشيء الذي دفع الدرك الملكي بالمنطقة إلى التربص بسارقي المقابر في السنوات الأخيرة، وإلقاء القبض على عدد منهم في حالة تلبس، حسب حارس المقبرة واحد العاملين بها. ثمن البناء ليس وحده ما يميز هذه القبور، لكن مكان الدفن يميزها أيضا فعدد منها يوجد بجانب الاشجار، إذ يظن آقارب الميت ان الشجرة ستظل على الميت،كما ان بعض عائلات الموتى يزرعون اشجارا ونباتات فوق القبور وبجانبها، كما أوضح سعيد،عكس قبور الفقراء التي لا تنمو فوقها سوى النبتة المعروفة بالدارجة المغربية بـ”الخبيزة”. ويختلف ثمن أماكن هذه القبور عن مثيلاتها، إذ تصل إلى أكثر من 250 درها. في رحلتنا الصباحية بين القبور، اكتشفنا ان هناك قبورا توجد بجانبها كراسي خشبية وأخرى حديدية، ما اعتبره حفار للقبور، موضة جديدة في المقابر المغربية،تمكن أقارب الميت من الجلوس بجانب القبر بشكل مريح. ثمن هذه الكراسي يتراوح ما بين 100 درهم و 150 درهما للكرسي. ” سويت”5 نجوم حينما نقول مقاول، ومساحة أرضية، وهندسة معمارية، وأزقة، نظن للوهلة الأولى أننا في إطار الحديث عن بناء المجمعات السكنية، لكن القبور أيضا لها مقاولها وهندساتها ولها مجمعاتها المقبرية، إن صح التعبير. في طريق طويل يوصل إلى اخر القبور العادية في الجهة اليمنى من مقبرة الرحمة نجد مساحات محاطة بأسوار ترتفع عن الأرض بحوالي متر ونصف، تعتليها سياجات حديدية، يتوسطها باب. إنها المدافن العائلية. لم نعثر على سي البرنزصي، مقاول مكلف بسوق بناء هذا النوع من المقابر، في مقبرة الرحمة ذلك اليوم، والذي أرسلنا إليه مسؤول بالمقبرة، إلا أننا التقينا بأحد المكلفين بالبناء الذي يعمل تحت إمرته. تقمصنا دور شخص يريد شراء بقعة ارضية لمعرفة الطريقة التي تقتني بها هذه الأراضي وطريقة بنائها، وأول ما قاله العامل هو أنه يجب التوجه لحجز إحدى البقع الأرضية الفارغة التي تتموقع بأحد الأزقة ( طرقات بين القبور) سهلة الولوج، لكن يجب دفع تسبيق “عربون” للأرض عند الإدارة، أو حجز الأرض عن طريق شيك. نصحنا بالاسراع حتى لا نضيع هذه ” الهمزة”. أما انواع هذه المساحات فتنحصر بين مساحات عشرة قبور، ومساحة من ستة قبور وقبر سابع هدية من طرف المقاول، فينطق من 5 ملايين سنتيم إلى 10 ملايين سنتيم، حسب المساحة والمواد المستعملة في البناء. إذ أوضح العامل أن: ” اختيار مواد التزين هي التي تحدد ثمن البناء، فاستعمال الرخام لأرضية المساحة، مثلا، ليس بنفس ثمن استعمال الزليج”. وكأدنى حد، يمكن ان يصل ثمن بناء المساحة إلى 20 مليون سنتيم لمساحة من 10 قبور، و 15 مليون سنتيم لمساحة من 6 قبور، وأقصى حد يصل إلى 25 مليون سنتيم للمساحة الأولى (ثمن شقة مجهزة في مجمعات السكن الاقتصادي)، و 19 مليون سنتيم للمساحة الثانية، وقد يزيد الثمن على ذلك. تركنا العمال يتابعون بماء أحد أجنحة الموت من صنف خمس نجوم “، التي توجد في مكان مرتفع يدل على عظمة المكان وثراء الأسر الميسورة المدفونة فيه، وتوجهنا للخروج ، مارين من الشارع الرئيسي للمقبرة، الشاهد الوحيد على الطبقية في المثوى الأخير. حتى الكلاب لها مقابر في الأيام التي كانت فيها طنجة مقصدا لأجناس العالم كله، لم يكن الكثير من الناس يستغنون عن رفقة الكلاب، تلك الكائنات اللطيفة التي تبدو مخلصة أغلب الأوقات، خصوصا عندما لا تختلف طريقة عيشها عن طريقة عيش أسيادها ، اليوم، مرت سنوات طويلة بعد ان فارقت طنجة ذلك الزمان الذي يراه السكان أجمل من أي وقت، وتلك الكلاب التي كانت مدللة ترقد اليوم في سلام، أو في شبه سلام، في المقبرة الشهيرة بمنطقة ” بوبانة” قرب ملعب الغولف. دفنت هنا أوائل الكلاب النافقة سنوات الخمسينات، من بينها الكلب ” نيك” الذي دفن يوم 15 أبريل 1957، وقربه شجرة صفصاف عملاقة يبدو أنها بعد دفنه وأصبحت أكبر من بكثير. مقبرة الكلاب في طنجة لوحاتها تحمل لغات كثيرة، إنها تعكس الأجناس التي كانت تعيش في طنجة، في هذه المدينة توجد المقبرة البريطانية والمقبرة الإسبانية والمقبرة اليهودية والمقبرة المسيحية المختلطة، لكن كل هؤلاء دفنوا كلابهم في مقبرة واحدة. البشر توزعوا على مقابر خاصة وكلابهم توحدوا في مقبرة واحدة. الكثير من الأجانب الذين دفنوا كلابهم في هذه المقبرة يكتبون على شواهد القبور عبارة ” هنا يرتاح …”. هل تعبت هذه الكلاب كثيرا مثل البشر حتى ترتاح؟ المدللة لا تتعب بالمرة. الذين يتعبون هم البشر .. والفقراء على الخصوص. القبور تتفاوت كثيرا في أحجامها، ويبدو أنها تبدأ بتلك الكلاب الضئيلة التي تشبه الفئران، مرورا بكلاب الكانيش التي لا تهمش ولا تنش، وانتهاء بالكلاب الألمانية الضخمة و الشرسة. هناك قبور مدمرة تماما، وبعضها تم حفره بآلات حادة ونهبت منها العظام، عظام الكلاب مواد مطلوبة للسحر الأسود، والأطفال الذين يعيشون قرب هذه المقبرة يقولون إنهم شاهدوا باستمرار أناسا جاؤوا من مدن مختلفة من المغرب يبحثون عن موادهم السحرية من داخل هذه القبور المهجورة. حول المقبرة أشجار زيتون وكثير من أشجار الصفصاف وأشجار تنبت كرات خضراء غريبة وثقيلة، وبضع أشجار نخيال بعضها محترق، وحول المكان واد يحمل بقايا مجاري المياه من الأحياء المجاورة. عن مجلة أوال