ناسيونال جيوغرافيك – الشاه طاهر (ترجمة محمد سعيد أرباط): ذكرياتي القديمة دائما ما تطغى عليها رائحة زهر البرتقال وأشعة الشمس الصافية التي تتخلل سعف النخيل الموجودة في حديقة جدي في طنجة، إنها واحدة من الذكريات التي تشكل طفولتي والملتصقة بها بقوة.
جدي كان كاتبا وعالما افغانيا انتقل إلى شمال المغرب في الستينيات، زوجته توفيت في وقت قريب بالسرطان، وانه ليشتاق الآن ليكون في مكان لم يكونا فيه معا من قبل. ومن مشهد فوق جبل طارق ومن منظر ضبابي من اسبانيا، طنجة كانت مفترق طرق بين الشرق والغرب ومكان مثالي للهروب.
كان هناك احساس بالخطر من عظمة تتلاشى، ومن امكانية هائلة في تلك الحقبة عندما كانت طنجة جنة للشواذ والهبيين، والمهربيين، والهاربين من القانون والفلاسفة.
كنا نزور جدي أحيانا، نستبدل هدوء القرية الانجليزية الامنة بسحر أزقة طنجة ومتاهاتها. أشبك يدي بيده باحكام وأنا أتعثر أمامه، كان يأخذني إلى السوق الذي كان يقول عنه إنه ثقب المفتاح إلى زمن آخر، وكان كذلك.
كان هناك الصيادون يطرحون ما اصطادوه من السمك في الصباح، صناديقهم المتلألئة بالسردين تحيط بها قطط مترقبة، وبطيخ أحمر كبير كبَر كرات المدافع، وأقفاص مليئة بالدجاج، وأكوام من السلع المهربة عبر مضيق جبل طارق.
خلال العودة عبر الممرات الملتوية، نمر عبر محلات التوابل “السحرة”، كنت أحبهم أكثر من أي شيء أخر. حرابي مجففة يتم وزنها ثم بيعها ملفوفة في جرائد للعديد من النساء المحجبات. ثم نمر عبر عدد لا ينتهي من المقاهي، كل مقهى مملوء بعدد من الرجال كبار السن يعتمرون جلاليب، يلعبون لعبة الاوراق، أو يحكون الخرافات الطويلة، أو يدخنون في بطء بـ”السيبسي” في نسيان تام للعالم الخارجي.
توجد فيلا جدي في الرقم 71، شارع الشاطئ. كانت صغيرة وأنيقة مع زوجين من السلالم الحلزونية التي تقود إلى الطابق الثاني، الباب الخارجي كان من حديد صدئ، وبينه وبين المنزل ظلة من الأزهار بعبقها العسلي.
كنا نجلس تحت الظلال في الحديقة منتشيين بعبق شذى زهر البرتقال، وجدي يحكي عن رحلاته في البلدان العربية التي أخذت نصف عمره من قبل، وبين الحين والاخر ينهض ويسير الهوينى داخل البيت ثم يعود إلى الظهور بدون هدف معين.
ذات يوم فتح راحة يده وأراني قطعة ملتوية صلبة من البرونز بوزن بيضة دجاجة، ثم قال ” هذه قطعة من سفينة شراعية اسبانية التقطتها من الشاطئ، احفظها دائما وستحفظك هي أيضا دائما”.
بعد ذلك بثلاثة أسابيع وعندما كان يتحسس مفتاحه في باب الفيلا الصدئ، كانت شاحنة كوكا كولا تعود إلى الخلف، فصدمته بعنف ومات في الحال، وتركني أشعر بفرغ في داخلي.
تلك كانت أولى ذكريات المغرب التي فعلت فعلها واستدرجتنا إلى الانتقال إلى المملكة المتحدة منذ 8 سنوات. في أبريل الماضي ( 2012) توجهت إلى طنجة رفقة أطفالي من منزلنا بالدار البيضاء.
أخذنا فرصة وطرقنا الباب الحديدي الصدئ في شارع الشاطئ، ثم شعرت كأنني أنقذفت إلى داخل الحديقة من طرف خادمة مسنة، لقد أمسكت برائحة زهر البرتقال وزهر العسل، فاغرورقت عيني بالدموع، ليس بسبب الرائحة، وإنما بسبب الذكرى.
في جيبي كانت تلك القطعة البرونزية التي اعطاني اياها جدي منذ 40 سنة، فدخلت إلى الفيلا وأنا ممسك بالقطعة بإحكام، ثم تجولنا بالبيت والتقطت صورة لخيال رجل كان يجلس في الحديقة وسعف النخيل تنشر ظلالها على الحائط.
طفلي الصغير تيمور سألني لماذا أنا صامت، فأجبته ” لأنني عدت إلى البداية”.