ما أجمل ليالي شهر رمضان في أجوائها الروحانية وسط أقواس وتحت مآذن ومساجد تصدح بخشوع وابتهالات، تتردد في بهاء المعمار التاريخي لمدينة شفشاون العريقة.
بعد سنتين من وقف صلوات التراويح بسبب الجائحة، جدد الشفشاونيون الوصال بعاداتهم وتقاليدهم الرمضانية الموروثة من جيل إلى جيل، والتي تجمع بين نمط العيش وروحانية هذا الشهر الفضيل.
هي طقوس روحانية، تشمل المنازل حيث تصدح تلاوة القرآن، مع قيام الليل بالتراويح، وإحياء أماسي الذكر والمديح بعدد من الزوايا، كلام يطيب القلوب ويغسلها من الصدأ.
وتميزت الأيام الأولى من رمضان هذا السنة بتساقط أمطار الخير، والتي ألبست لشفشاون رداء فصل الربيع، كما أزكت دروب المدينة العتيقة وساحاتها بروائح طل الندى، الممزوج بعبق أزهار النارنج الفواح خلال هذه الأيام.
هي تقاليد لا تنمحي في تجديد أواصر دفء المدينة العتيقة بمساجدها وزواياها الصوفية، المتواجدة في كل حومة وتصوغ في نهارات ومساءات الضوء مزاجا، راقيا من العفوية والمحبة لحياة ترفل في عمق البساطة، وتتجدر في أعراف وتقاليد متنوعة لا تمحيها تعاقب فصول السنة الأربع.
ورمضان هذه السنة في طقوسه اليومية هو بساط ربيع أخضر للمحبة والتسامح في الحياة الاجتماعية التي تواكب لياليه وتجدد الزمن الذي تغمر مواقيته دهشة انغمست وسط جمال طبيعة ربانية لا تفنى، وتعايشت معها ألفة الساكنة في غنى مجالاتها وصارت معها شفشاون في عزلتها الصامتة جنة فوق الأرض.
فمن خلال العادات الروحانية الأصيلة التي تتماشى مع نهابة هذا الشهر الفضيل، يعتبر رمضان من الشهور العظيمة التي لها مميزات خاصة، توحد وتصالح مشاعر الناس، يكثر فيها اللقاء بين الأسر والأقارب والجيران، ويزيد تبادل العيادات للجلوس على مائدة واحدة في إفطار جماعي، عدا تبادل الأطباق المعدة منزليا بروح من المشاطرة والإيثار.
كما يحرص الأبناء المقيمون في مدن ومناطق أخرى على زيارة أحبائهم بشفشاون في هذه المناسبة، مناسبة لصلة الرحم ولتجديد ذكريات الصبا.
ويطبع هذه المناسبة التضامن والتكافل ومساعدة العائلات المعوزة، حيث تعم البهجة في عموم الأسر والأطفال والأسر لتبادل التهاني والتبريكات إجلالا لقدسية هذا الشهر، حيث تتجدد العادات والطقوس الرمضانية تعطيها متانة في الوجدان الفردي والجماعي مع الزي التقليدي.
وإذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة بجميع أصنافها فرضت تحولات عميقة ومؤثرة في المجتمع، وتغيرت بسببها أنماط العيش، وصارت العادات في نظر الأجيال اللاحقة عبئا، فمجموعة من أسر شفشاون بقيت متمسكة بها وتحرص على تسليم مشعلها من جيل لجيل، صامدة في وجه حداثة تخلخل التقاليد وتزرع قيما جديدة.
من جهة أخرى، تحرص الأسر على تحضير الوجبات الصحية الأندلسية التي تتوافق مع تراث ثقافة التغذية المتوسطية، وتحتوي على طجين (تاغرة) السمك، أو الدجاج البلدي، والرغائف، والحساء بكل أصنافه وتلاوينه، ثم حلوى الشباكية والمقروط وأشكال أخرى لذيذة يتم تحضيرها بسرعة وبتكلفة مادية أقل، مستلهمة مقاديرها ووصفاتها من لحظات ذاكرة حصاد تجتمع خلاله الجارات في تآزر وتعاون لصنع الحلويات وتبادل الخبرة والتجربة في الطبخ المحلي.
ومن هنا تكون مائدة الافطار والعشاء والسحور ترجمان لكل عين بما تشتهيه الأذواق، ومن كل فن طرب شعاره زيت الزيتون والأجبان البلدية، والتين المجفف ، وهلم جرا من المنتوجات المجالية ذات القيمة الغذائية الجيدة.
ورغم تراجع بعض العادات بالمغرب فأجواء رمضان في شفشاون لا تختلف عن أجواء رمضان في مدن شمال المملكة، فالتقاليد الدينية والصوفية والاجتماعية راسخة عبر أجواء الاعتكاف والصلاة.
وتظل لشفشاون في رمضان مكانتها الخاصة لطبيعتها الخلابة ، ببساتينها وغاباتها الخضراء التي تتيح لعشاقها قضاء أوقات ممتعة بين أحضانها قبيل موعد آذان الافطار، وتتيح التنزه بالحدائق الأندلسية بأمان لكل الباحثين عن ملاذ الهدوء والاستجمام.
من جهة أخرى، تحفل ذاكرة ساكنتها في البوادي كما في المدينة بشخصيات بصمت الوجدان لعقود من الزمن بصوتها الجهوري في الآذان والابتهالات، ومعلوم أن شفشاون تشتهر بمساجدها ومآذنها وزواياها الصوفية التي تعرف قراءة القرآن والابتهالات وصلاة التراويح، وأذكار في مدح الرسول (ص) وابتهالات رمضانية بأصوات سخية، كما تشتهر بعزف على آلة النفخ (الغيطة) من فوق مآذنها الشهيرة ،وكمثال المسجد الأعظم بساحة وطاء الحمام، ومسجد الحسن الثاني.
كما تستعيد فرارين الأحياء القديمة نشاطها ودورها الطلائعي التقليدي في طهي الخبز و”طاجين الشطون” (سمك الأنشوبة)، ويستمر الاقبال على الزي التقليدي من طرف الرجال والنساء، وتنتعش محلات منتوجات الصناعة التقليدية، كما تعرف المقاهي رواجا بعد صلاة التراويح ، حيث تجد الناس في مسامرة بالمقاهي أو بمنتجع رأس الماء يتبادلون القفشات والتداول في أمور كثيرة وهم يتناولون بتفاؤل كؤوس الشاي المعطرة بأزهار النارنج.