في مدن العالم، هناك حواضر تنام على أمجاد أسوارها، وهناك من تستفيق على وقع تقارير دولية تصفع الذاكرة وتوقظ السؤال.
ومدينة طنجة، الواقفة على حافة المضيق منذ قرون، لم تعد تنظر إلى البحر من نافذة الحنين، بل أضحت تُحدّق في خرائط العالم من موقع جديد، يحجز لها مقعدا بين الوجهات العشر الموصى بها لسنة 2025، ويضع اسمها في تقارير الهيئات الكروية الكبرى، ويجعل من مآثرها مواضيع سرد للمنابر الأوروبية دون أن تطلب ذلك.
غير أن المدن، مهما تزينت في عيون الغرباء، لا تستكمل قصتها دون الاعتراف بدور أهلها في كتابتها. وهنا بالضبط تبدأ مفارقة طنجة: مدينة تزداد تألقا في الخارج بقدر ما يزداد داخلها تساؤلا عن من يدير هذا التألق، وعن من يواكبه، بل من يفهم لغته.
الفيفا لا تمنح النقاط على الجمال، بل تكتب تقاريرها بالأرقام والقياسات وولوجية الجماهير، وتقف عند محيط الملعب لا عند صور “اللوك الساحر” المنتشرة على إنستغرام.
المجلات الألمانية لا تكتب بدافع المجاملة، بل تقرأ مؤشرات السفر وتفكر في القطار، والميناء، وفي الإنارة العمومية حين يحل المساء.
والقنوات الفرنسية لا تمجد الفن المعاصر إلا إذا لمسَت أثره في الأزقة، لا في بلاغات المواسم الثقافية التي لا تصل أحيانا حتى إلى سكان طنجة أنفسهم.
وما بين تقرير وآخر، وصورة وأخرى، يُطرح السؤال الموجع: أين هي المؤسسة المنتخبة من كل هذا؟ هل تعرف فعلا ما يحدث؟ أم أنها تقرأ التصنيفات بعد صدورها، وتصفّق لما لم تساهم في صنعه؟ وهل يكفي أن تُضاء القصبة ليلا، وأن يُرمم المتحف، لكي نقول إن المدينة أصبحت مضيافة؟ ماذا عن النقل العمومي، والمرافق الصحية، واللافتات التي ترشد الزائر في المدينة القديمة، والمقاعد المهترئة في محيط ملعب يحتضن منافسات المونديال بعد خمس سنوات؟
طنجة لا ينقصها التاريخ ولا الجغرافيا، ولا ينقصها الحب أيضا. ما ينقصها أن يكون داخل مؤسساتها من يراها كما يراها الخارج، لا أقل ولا أكثر. أن يقتنع المُنتخب بأن الجاذبية السياحية لا تُدار بالبلاغات، وأن الترويج للمدينة لا يكون على منصات التواصل الاجتماعي فقط، بل في عمق التهيئة والترتيب والتفاصيل التي تصنع التجربة وتترك الأثر.
الاعتراف الدولي لا يُشترى، لكنه لا يُثمر أيضاً ما لم يُقابل بإرادة داخلية. وواقع المدينة يقول إننا بصدد تألق من جهة الدولة، وتعثر من جهة المجالس. لا توازن هنا ولا تكامل. كأن المدينة تمشي بقدم واحدة في ماراثون يتطلب الوثب بكل ما أوتي الجسد الترابي من حيوية. كأن طنجة لا تزال تتقدم في الصحف بينما تتراجع في محيط ملعبها، وفي قلب أسواقها، وعلى أرصفة شوارعها غير المكتملة.
ليست هذه دعوة إلى جلد الذات، بل إلى استدراك ما يمكن استدراكه. الزمن لن ينتظر، والسياح لا يأتون بدافع الشفقة، ولا المستثمرون. طنجة تطرق باب العالمية من دون وسطاء، فهل من داخلها من يفتح لها الباب كما يليق بها؟