لطالما كانت طنجة مدينةً مفعمة بالحكايات والأسماء الغريبة التي تحمل في طيّاتها شهادات صامتة على تحوّلاتها الكبرى.
أسماء أحيائها العشوائية كانت تُرَسِّخ لنمط حياةٍ ربطها بذاكرة “مدينة بلا روح” كما كان يُقال. فمن حومة “الحمير” إلى حومة “النصارى” و”ربع ساعة”، يبدو أن هذه التسميات كانت قادرة على تلخيص كل مراحل الفوضى والانفجار الديمغرافي الذي عرفته طنجة خلال العقود الماضية.
أحياء بُنيت في زمن الفوضى..وسُميت بالفوضى
تُذكِّرنا حومة “ربع ساعة” بقصّة ولادة الحي الذي نشأ على عجلٍ في الثمانينات، حين استغلّ أحد المرشحين للانتخابات فوضى المشهد ليبني مجده السياسي عبر جلب أصوات قريته وإسكانهم في هذا الحيّ الذي نبت مثل الفِطر.
“ربع ساعة” كان اسماً ساخرًا يصف سرعة تشييده، لكنّه يفضح أيضاً استهتاراً جماعياً بالقوانين.
أما “حومة الحمير”، فقد سُمّيت كذلك لأنّ الحمير كانت جزءاً لا يتجزأ من المشهد، تُستخدم لجلب الماء إلى السكان. هكذا، قرّر الناس تكريم الحمير بإطلاق اسمها على الحيّ، في زمن كانت فيه الحمير أكثر نفعًا من الكثير من المسؤولين.
ولا ننسى “حومة الشوك”، حيث كانت الأشواك عنواناً لطبيعة المكان، ولم تغب حتى عن المظهر العام الذي ظلت تعبث به “وديان الحارّ” التي كانت تخترق الحيّ.
وعلى النقيض من ذلك، نذكر “حومة الوردة”، التي رغم اسمها الجميل لم تضمّ وردةً واحدة قطّ في ذلك الوقت، بل كانت “رائحة الورود” فيها عبارة عن نفحات يومية من قنوات الصرف الصحي.
وتكشف أسماءٌ مثل “حومة الزبالة” و”حومة النصارى” عن محطات زمنية وتجارب اجتماعية تتسم أحياناً بالسخرية القاتمة. الأولى كانت مُلتقى الأزبال والمخلفات، بينما الثانية حملت اسم اليهود والنصارى الذين عاشوا هناك سابقاً قبل أن يتركوا المكان ويُخلِّفوا وراءهم براريك معدنية وروايات متداولة.
من “صدام حسين” إلى “تجزئة الخير” .. حين تُعيد طنجة كتابة تاريخ أحيائها
لكن الزمن تغيّر، وحرصت السلطات والمجالس المنتخبة في طنجة على إزالة تلك “الذاكرة السلبية” عن أحياء المدينة عبر مشاريع وبرامج تنموية شاملة.
فمثلا حومة “الحمير”، لم تعد حومة الحمير! بل تحوّلت إلى “تجزئة الخير”، وكأنَّ الخير جاء أخيراً بعد سنوات من المعاناة.
أما “حومة الشوك” هي الأخرى، فقد خضعت لعملية تجميلية فصارت تُعرف بحي “بنكيران”، بينما حي “الوردة” بدأ أخيراً يستحق اسمه بفضل تحسّن جاذبيته بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة.
وقد جاءت هذه التحولات، بفضل مبادرات تنموبة شملت مشاريع ضخمة على رأسها برنامج “طنجة الكبرى” برنامج تأهيل الأحياء ناقصة التجهيز، وبرنامج حماية طنجة من الفيضانات، وبرامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي ساهمت بشكل ملموس في تحسين جودة الحياة داخل هذه الأحياء.
فالطرقات جرى تعبيدها، قنوات الصرف الصحي تم إصلاحها، والبنية التحتية عموماً ارتقت إلى مستوى أفضل مما كانت عليه.
ولكن، الذكريات لا تموت!
رغم كل تلك الجهود، يبدو أن سكان طنجة يرفضون التخلّي عن تسمياتهم القديمة. فتغيير الاسم الرسمي لحيٍّ ما لا يعني نسيان الاسم الذي وُلد به في ظلّ ظروف استثنائية.
فما زال الناس يُطلقون على “تجزئة الخير” اسم “حومة الحمير”، ويروون حكايات الحمير التي كانت تجلب الماء. وما زال المارّون بجانب حي “بنكيران” يُخبرون أولادهم او أحفادهم عن الأشواك التي كانت تُغطّي المكان عندما كان يُسمّى “حومة الشوك”.
وحتى الوافدين الجدد، الذين انضمّوا إلى النسيج الاجتماعي للمدينة خلال السنوات الأخيرة، ورثوا هذه التسميات القديمة كجزءٍ من هويّة طنجة. مما قد يشكل دليلاً على أنّ الأسماء ليست مجرد كلمات، بل ذاكرة جماعية تنطوي على قصص وعِبَرٍ ترفض الزوال.
طنجة الجديدة.. ذاكرة قديمة بروح حديثة
طنجة اليوم ليست طنجة الأمس. المدينة التي عاشت على إيقاع الفوضى والتمدّد العشوائي لعقود باتت تتحسّس طريقها نحو التطوّر. برامج التأهيل والتجهيز التي استفادت منها أحياؤها جعلتها أكثر قدرة على احتضان قاطنيها بجودة حياة أفضل.
لكن طنجة الجديدة، رغم روحها الحديثة، ستظل تحتفظ في ثناياها بأسماء أحيائها القديمة التي تُثير الضحك أحياناً، وتُثير الشجن في أحيان أخرى.
ربما تكون هذه الأسماء درساً ضمنياً يذكّر الجميع بأنّ الفوضى ليست قدراً محتوماً، وأنّ المدن قادرة على النهوض مهما طال سباتها. ومع ذلك، فإنَّ “حومة الحمير” و”ربع ساعة” و”حومة الزبالة” ستبقى في ذاكرة سكان طنجة شاهدةً على أزمنة غابرة لم يعد من الضروري العودة إليها، لكنها ستظلّ حاضرة كجزءٍ من حكاية مدينة تعلّمت كيف تُعيد بناء نفسها.