لم يكن أحد يتوقع أن تتحوّل جلسة استثنائية لمجلس جماعة طنجة، عقدت يوم الإثنين، إلى لحظة توتّر قصوى، بعد أن اخترقت المستشارة الجماعية، حميدة بلشكار، جدار الصمت لتتحدث، دون مواربة، عن ما سمّته “أصواتا تتحدث عن مبالغ مالية مقابل التصويت على بعض المقررات”.
كلماتها سقطت كالصاعقة، ليس فقط لأنها وردت في قاعة المجلس، بل لأنها جاءت في سياق سياسي مشحون، لم يندمل بعد جرحه، منذ إسقاط مشروع إعادة تهيئة سوق سيدي احساين في جلسة سابقة، بعدما انقلب فريق التجمع الوطني للأحرار على العمدة منير ليموري وصوّت ضد المشروع، في مشهد قرأه المتتبعون كمؤشر على تصدّع الأغلبية.
لكن الدورة الاستثنائية الأخيرة، التي كان يُفترض أن تكون تقنية ومضبوطة الإيقاع، تحوّلت إلى ساحة مفتوحة للغمز واللمز. بلشكار لم تتهم أحداً بالاسم، لكنها تركت في الهواء سؤالاً لزجاً: هل أصبحت المواقف داخل المجلس تُشترى وتُباع؟ وهل ما قيل عن سوق سيدي احساين كان مجرد رفض مشروع أم رفضا بدون مقابل؟
“إذا ثبت أن الرئيس منير ليموري متورط في شراء الأصوات، فلن أبقى صامتة وسأطالب بفتح تحقيق”، تقول بلشكار، في تصريح بدا للوهلة الأولى شجاعاً، لكنه يخفي بين سطوره كثيراً من الحرج والريبة. فحين يتداول المنتخبون أنفسهم هذا النوع من الشبهات، فإن العمل الجماعي يفقد جزءاً من شرعيته الأخلاقية.
ولا يتعلق الأمر هنا فقط بمسألة قانونية، بل بمشكلة عميقة في علاقة المواطن بمؤسساته المنتخبة. كيف يمكن إقناعه بأن من يمثله يناقش ويصوّت بضمير، إذا كان الحديث عن المال مقابل التصويت يُلقى داخل الجلسات كأنه جزء من النقاش؟ ومن يضمن أن المشاريع لا تُسقَط فقط لأنها لم تُرفَق بالمقابل المناسب؟
سوق سيدي احساين، الذي تحوّل إلى رمز لفشل دورة ومسرح لانقسام سياسي، لم يعد مجرّد فضاء عشوائي يحتاج التأهيل، بل أصبح، عن غير قصد، مرآة لما يحدث خلف الكواليس: مشروع ضاع، وانضباط سياسي انهار، ومواقف بدت وكأنها تُحاك خارج أسوار المجلس.
ومع ذلك، لا أحد تحرّك لفتح تحقيق. لا العمدة، ولا السلطات الوصية، ولا حتى الأصوات التي تتغذّى على الشعارات الأخلاقية. كل شيء مرّ كما لو أن المجلس تعوّد على تداول الكلام الكبير دون عواقب. فـ”الشراء” و”البيع” و”التحالفات المصلحية” لم تعد مفاهيم غريبة، بل أصبحت مفردات مكرّسة في القاموس الجماعي للمجالس المنتخبة.
وفي طنجة، كما في مدن أخرى، أصبحت بعض الجلسات تُشبه إلى حدّ بعيد طقوس “البيعة السياسية”، حيث لا يكفي أن تقتنع بالمشروع، بل يجب أن تُقنع الآخرين بـ”كلفة” الاقتناع. وهذا ما يجعل من تصريح بلشكار لحظة فارقة، ليس لأنها تملك دلائل، ولكن لأنها فجّرت بصوت عال ما يتم تداوله همساً.
في غياب أي رد رسمي، وأمام صمت معظم الأطراف، يبقى السؤال مفتوحا: هل فعلاً المواقف داخل المجلس الجماعي تُسعّر؟ وإذا كان الأمر مجرد شبهة، فهل من مصلحة طنجة أن تستمر هذه الشبهة دون حسم؟ أم أن الصمت، كالعادة، سيُدفن تحت بند “حفاظاً على السير العادي للمؤسسة”؟