“دقات القدر” إطلالة فنية مُعتَّقة، تجمع بين قيم ورسائل متعددة، سفر بالصوت والصورة والتصور إلى ماض قريب من تاريخ حديث، إطلالة تنير سماء السينما المغربية الممتدة نجومها عبر سنوات طوال بأعمال فنية-سينمائية حازت إعجابا أشبه بالتنمية في استدامتها المنشودة، متحررة من القيود لكنها لا تنكر القيم وتؤمن بها حد الإيمان بالقدر . صفحة من صفحات كتبها وأخرجها فنان آثر الاشتغال في صمت بعيدا عن مؤثرات لا تضيف للفعل السينمائي في تمفصلاته ومنعرجاته باختلافها أي قيمة تذكر.
“دقات القدر” إعادة قراءة لتاريخ الريف، إعادة اعتبار لهذا الريف الجميل المناضل، نكهة من الإيمان بقضية عادلـــــة، أو بالأحرى الجزم بمضامين قصص رواها من استطاعوا إلى ذلك مسلكا في جزء من الزمن لم يكن يسمح لهم بأكثر من فرصة للعيش، واكتوى ب “أرهاجها” كثير من الخلق وهم يحملقون غير عابئين بدوامة القدر، قدر دق الأبواب والقلوب معا وارتجت معه أوصال العيون والأحاسيس ولم تتح أي مجال للمقاومة .. كانت دقات القدر يومها أقوى ..
“دقات القدر”، لحظة تشد الأنظار، فيها تجليات من التصوف، تتوقف عندها المشاعر المتناثرة، تجبرك “عن طيب خاطر” وحب في التعرف عن قرب على التفاصيل، تفاصيل ذاكرة واقعية جدا، مؤلمة، مؤثرة، توثر على نفسها رغم حاجتها إلى الإنصاف، مليئة أكثر مما يتصور، وحدهم الذين عايشوا ذلك حينها من يمتلكون أسرار لعنات “أرهاج” (حرب الغازات السامة) الذي اغتال الحياة والإنسان والنبات وكل الأشياء التي تنبض ..هناك في جزء من الريف قبل قرن يوشك على إقفال أبوابه (1921-1927).
“دقات القدر”، محطة استراحة، قبل أن يواصل من خلالها المخرج محمد اليونسي مسيرته الإبداعية التي تضم خزانتها فيلما آخر لا يقل جودة ونجاحا الوشاح الأحمر، وبصمت بقوة في ذاكرة المشاهد والناقد وغيرهما.
وإذا كان “أرهاج” التيمة الغلابة في الدقات كما القدر، فإن روح الوحي الفني الذي يأتي السيناريست محمد اليونسي –على حين غرة- في يومياتها، ليخرجه من ذات المواطن إلى ذات السيناريست مع إحساس إضافة بالمواطنة والانتماء وحجم المسؤولية والرسائل المفروض إيصالها إن كان هناك من يهمه الأمر، (روح أرهاج) أرخت بظلالها، لكنها لم تمنع مبدع الفيلم من إطلاق العنان لسرد جميل لتصوير مشاهد من حياة الناس بالريف، وسرد جزء من التقاليد وما ميز دوما العلاقات الإنسانية، تحدث عن مكانة المرأة، الذي كان للممثلة يسرا طارق البراعة والتألق في تجسيدها، عرج بنا على حضور “ثامغاث” وفعلها وتفاعل المجتمع مع فعلها وردود أفعالها كذلك، عن علاقاتها بشريكها في مسيرة الإنسانية وتنزيل المبادئ والقيم الكونية …
“دقات القدر”، موعد مستفز، يوقظ فيك إحساسا تائها يبحث عن مستقر، يمتح من مَعِين رواية “السمفونية الخامسة” لمؤلفها محمد اليونسي، اختير ليكون ضمن الأفلام الطويلة الروائية والوثائقية المشاركة في الدورة العشرين من المهرجان الوطني للفيلم، التي ستقام فعالياتها بطنجة خلال الفترة الممتدة ما بين 1 و9 مارس المقبل .. “دقات القدر” موعد سينمائي يستحق المشاهدة، وقبل ذلك يستحق التتويج عن جدارة واستحقاق.
بقلم: مراد بنعلي