بعد سنوات من الصمت المؤسساتي تجاه تدبير ملاعب القرب في طنجة، اطلق والي جهة طنجة تطوان الحسيمة، يونس التازي، تصريحات لافتة، وصف فيها الوضع بـ”غير المقبول”، داعيا الى اعادة ضبط بوصلة التسيير، وربط هذه الفضاءات بادوارها الاجتماعية الاصلية.
وخلال لقاء احتضنته عمالة طنجة اصيلة يوم الخميس، شدد التازي على ان عددا من هذه الملاعب “لا يشتغل اليوم في اطار حكامة منصفة”، مبرزا غياب الشفافية، وتراجع مؤشرات الانصاف في الاستفادة، وافتقار بعض الفضاءات الى الصيانة الدورية، رغم ما تحققه من مداخيل ثابتة.
وقال الوالي ان “الهدف من ملاعب القرب لم يكن قط تحقيق الربح، بل ضمان عدالة رياضية بين مختلف الفئات، وتشجيع الشباب على الانخراط في الحياة الرياضية بشكل سليم”، مذكرا بان هذه الفضاءات “انشئت في الاصل في اطار برامج اجتماعية موجهة الى الفئات ذات الدخل المحدود”.
وتم خلال اللقاء الاعلان عن برنامج جديد يحمل اسم “طنجة، ملاعب الخير”، يستهدف اعادة تاهيل 34 ملعبا في مختلف احياء المدينة، وفق تصور جديد يرتكز على رقمنة منظومة الحجز، تحديد تسعيرة رمزية لا تتجاوز 100 درهم في الساعة، وتوسيع قاعدة المستفيدين لتشمل التلاميذ والجمعيات ذات الطابع التربوي والاجتماعي.
ورغم تعدد الصيغ التدبيرية التي عرفتها هذه الملاعب منذ انشائها، الا ان كثيرا منها ظل، بحسب ملاحظين، خاضعا لواقع غير رسمي، فرضت فيه فئات محلية نفسها كجهات متحكمة في الولوج والتدبير. وقد عرف بعض هؤلاء في الخطاب الشعبي بلقب “الشّبّيرات”، وهم اشخاص يسيطرون على الملاعب في عدد من الاحياء باستعمال اساليب الامر الواقع، دون صفة قانونية او جمعوية واضحة.
هذا النمط من التحكم، الذي استمر لسنوات، ساهم في انتاج علاقات غير متكافئة بين السكان وهذه الفضاءات، حيث تحولت بعض الملاعب الى ما يشبه “الضيعات الخاصة”، يتم الولوج اليها بناء على الولاءات الشخصية او دفع تسعيرات مرتفعة، في غياب المراقبة الصارمة.
وفي حالات معينة، تفيد مؤشرات عديدة بوجود اشخاص راكموا ارباحا معتبرة من هذه الهيمنة، دون سند تعاقدي شفاف، ما اعتبره ملاحظون وجها من اوجه “الريع الرياضي”، الامر الذي يفسر دعوة والي الجهة الى “تغليب مصلحة المواطن على المصالح الضيقة”، في اشارة واضحة الى ضرورة وضع حد لهذا النمط من الاستغلال غير المؤطر.
وبينما لم يسم الوالي الجهات او الفاعلين الذين تولوا تدبير هذه الملاعب في المراحل السابقة، اعتبرت اوساط محلية ان تصريحاته تمثل “اول اعتراف رسمي بما كان يتداول لسنوات من انتقادات ميدانية، ظلت في الغالب حبيسة النقاشات غير المعلنة”.
وبحسب عدد من الفاعلين الجمعويين، فان عددا من هذه الملاعب ظل، لسنوات، رهينا بانماط تسيير غير شفافة، “تغيب مبدأ تكافؤ الفرص، وتخضع الاستفادة لمنطق العلاقات الشخصية او التحكم المحلي”، ما جعل الكثير من الفرق والجمعيات الصغيرة خارج دائرة الاستفادة.
ويضيف احدهم، فضل عدم الكشف عن اسمه، ان “الوضع كان معروفا لدى الجميع، لكن لم يكن هناك من يتجرأ على فتح هذا الملف بهذه الدرجة من الصراحة”، معتبرا ان تدخل والي الجهة “فرصة حقيقية لاعادة الاعتبار لوظيفة هذه الملاعب، ان توفرت ارادة المتابعة والمحاسبة”.
وفي مقابل ذلك، يرى فاعلون رياضيون ان التحدي لا يكمن فقط في الاعلان عن برامج جديدة، بل في “تفكيك البنيات غير الرسمية التي تشكلت حول بعض هذه الملاعب”، وضمان “حياد مساطر التعاقد مع الجمعيات”، وارساء مبدأ التقييم المستمر لكل تجربة تدبير.
وتعد ملاعب القرب في طنجة من ابرز مشاريع الادماج الرياضي التي روج لها منذ منتصف العقد الماضي، في اطار مبادرات وطنية لتقليص الفوارق المجالية وخلق فضاءات بديلة للشباب، خصوصا في الاحياء ذات الكثافة السكانية العالية.
لكن غياب اليات التقييم والمراقبة افرز، بحسب ملاحظين، “اختلالات تدبيرية تتفاوت بين حي واخر، من حيث التعريفة المفروضة، ومدى احترام معايير السلامة، وعدالة الحجز، ونزاهة العائدات المحصلة”.
وتجدر الاشارة الى ان الطفرة الاولى في احداث ملاعب القرب بمدينة طنجة جاءت في سياق تنزيل برنامج “طنجة الكبرى” (2013 – 2017)، وهو المشروع الملكي الطموح الذي استهدف اعادة هيكلة البنيات التحتية الحضرية، وتعزيز العرض العمومي في مجالات التنقل والترفيه والتاهيل الاجتماعي.
وشكلت هذه الملاعب حينها احدى الواجهات الميدانية الاكثر حضورا داخل الاحياء الشعبية، حيث تم تشييد عشرات الوحدات المصغرة بتمويل مؤسساتي متعدد، غير ان تعدد الجهات المدبرة، وغياب الرؤية الموحدة، ساهما في بروز اعطاب بنيوية استمر صداها الى اليوم.
وتعول السلطات، من خلال البرنامج الجديد، على “اشراك جمعيات ذات كفاءة مجالية حقيقية”، وربط الحجز بمنصة الكترونية تسهل التتبع المالي والاداري، مع العمل على تخصيص نسبة من العائدات لدعم الانشطة الاجتماعية، وفق دفتر تحملات سيتم اعتماده خلال الاسابيع المقبلة.
ويرتقب ان يشهد الدخول المدرسي المقبل انطلاق اولى الدورات الرياضية لفائدة التلاميذ مجانا، في اطار شراكة مع المصالح التربوية، ضمن ما تصفه السلطات بـ”المكتسبات غير القابلة للتراجع”.
لكن، في مدينة اعتادت التكيف مع الخطابات الاصلاحية اكثر من تنفيذها، يبقى السؤال المطروح هو ما اذا كانت هذه التصريحات الرسمية “تدشن فعلا لمرحلة جديدة من الشفافية الرياضية”، ام انها مجرد “حلقة اخرى في مسلسل الوعود التي ما تلبث ان تذوب بمرور الوقت”.