في قلب الرؤية المغربية لإفريقيا، يتقاطع الطموح المالي مع البنية التحتية المتقدمة، حيث لا يُمكن فهم الصعود المتسارع للقطب المالي للدار البيضاء دون استحضار الدور المفصلي الذي يلعبه ميناء طنجة المتوسط، المنصة اللوجستية الأكبر في إفريقيا والبوابة البحرية الأقرب إلى الأسواق الأوروبية.
فخلال مشاركته في الدورة الرابعة لمنتدى أوروبا-إفريقيا بمرسيليا، حرص المدير العام للقطب المالي، سعيد الإبراهيمي، على إبراز هذا الارتباط، مشيرا إلى أن “العرض المالي المغربي يستند إلى بنية تحتية فعالة، في مقدمتها ميناء طنجة المتوسط، الميناء الأول في إفريقيا”، مضيفا أن التكامل بين الدار البيضاء وطنجة يُمكّن المملكة من لعب دور غير مسبوق في إعادة تشكيل الجغرافيا الاستثمارية للقارة.
ولا يُنظر إلى طنجة المتوسط فقط كميناء لنقل الحاويات والبضائع، بل كحلقة مركزية في سلاسل القيمة، تستند إليها شركات الخدمات المالية الدولية والمؤسسات متعددة الجنسيات، التي تجد في القطب المالي للدار البيضاء إطاراً قانونياً ومؤسساتياً مطابقاً للمعايير الدولية، وفي طنجة بنية تشغيلية عالية الجاهزية.
ويمثّل هذا التكامل بين المركز المالي في الجنوب والمرفأ الصناعي في الشمال، ما وصفه الإبراهيمي بـ”التموقع المغربي المزدوج”: بين العمق الإفريقي والانفتاح الأوروبي، بين جاذبية الاستثمار وثقة السوق، بين الطموح الاقتصادي والواقع اللوجستي.
وتتجلى هذه المعادلة في أرقام: أزيد من 40 بالمائة من الاستثمارات الخارجية المباشرة للمغرب يتم توجيهها نحو إفريقيا جنوب الصحراء، وفقا لمعطيات رسمية، بينما تضاعف حجم الرواج التجاري لميناء طنجة المتوسط بأكثر من ثلاث مرات خلال العشر سنوات الأخيرة، ليحلّ في المرتبة 23 عالمياً ضمن تصنيف الموانئ الأكثر نشاطاً في شحن الحاويات سنة 2024، بحسب مؤشر “Lloyd’s List”.
في سياق عالمي يشهد تحوّلات عميقة في سلاسل التوريد، تبرز “الصداقة الاقتصادية” أو friendshoring كاستراتيجية بديلة للدول والشركات الراغبة في تقليص تبعيتها الجيوسياسية. وفي هذا الإطار، يتموقع المغرب كبديل موثوق، يجمع بين البيئة القانونية المستقرة، والبنية التحتية القارية، والشبكات التجارية متعددة الأطراف.
هذا التحوّل، كما يؤكده الإبراهيمي، “يجعل من المغرب ليس فقط نقطة عبور، بل نقطة ارتكاز استراتيجي”، حيث يجد المستثمرون في الدار البيضاء فضاءً مالياً منظمًا، ويعتمدون على طنجة المتوسط لتنفيذ استراتيجياتهم التشغيلية، في نموذج لا يتكرر كثيراً عبر القارة.
ومن خطاب أبيدجان سنة 2014، حيث دعا الملك محمد السادس إلى “إفريقيا تثق في إفريقيا”، إلى خارطة الطريق التي يقودها القطب المالي للدار البيضاء، ومرورا بمنصة طنجة المتوسط، يتضح أن الرؤية لم تكن خطابا سياسيا عابرا، بل مشروعا مهيكلا يجد امتداداته في مؤشرات الاستثمار، وفي تدفقات البضائع، وفي ثقة الشركاء الدوليين.
هكذا، لا تكتمل صورة المغرب كمركز مالي إفريقي دون استحضار طنجة، ولا يكتمل مشروع طنجة دون إدماجه في استراتيجية تمويل واندماج إقليمي. إنه تحالف الجنوب الاقتصادي والشمال اللوجستي، حيث تصنع البنية التحتية مستقبل التموضع المغربي في إفريقيا والعالم.