وكأن المغرب انتقل بخطوة ثابتة نحو دولة الرفاه، حيث يحصل المواطن على الرعاية الصحية بابتسامة، ويدخل إلى المستشفى ليُستقبل كما يُستقبل الضيوف في فنادق الخمسة نجوم.
هذا ما قد يفهمه من يطالع تقرير “الصحة 2025” الصادر عن مؤسسة أمريكية غير ربحية، والذي منح المملكة المرتبة 82 عالمياً، متقدمة بثماني درجات عن تصنيفها السابق، ومحصّلة على معدل 55.49 نقطة.
لكن من حسن الحظ أن المرضى في طنجة لا يطالعون هذه التقارير. فهم مشغولون بالوقوف في طوابير المستشفى الجهوي محمد الخامس والمركز الاستشفائي الجامعي الجديد، حيث تُقاس الخدمات بعدد “الرجعات” إلى مكتب المواعيد، لا بعدد الأطباء. حيث يصبح طلب فحص بالأشعة أو سكانير نوعاً من الطموح، والولوج إلى سرير في مصلحة المستعجلات حلم من الأحلام المؤجلة.
في هذا مستشفى محمد الخامس، لا أحد يسأل عن نوعية العلاج، بل عن إمكانية وجوده. ولا أحد يتحدث عن المساواة في الولوج إلى الرعاية الصحية، بل عن البقاء على قيد الانتظار. بعض المرضى يأتون في السادسة صباحاً، لا لأن العلاج يبدأ مبكرا، بل لأن السباق إلى المكان في قاعة الانتظار يتطلب استعداداً بدنيا لا يقل عن سباق 1500 متر. أما أولئك الذين لا يملكون اللياقة أو المعارف، فعليهم الانتظار… أو العودة في الغد… أو ربما في الأسبوع المقبل… إذا كان الحظ جيداً.
ومع ذلك، حين تشتكي إلى المسؤول، قد يُقال لك إن هناك إصلاحاً جارياً، وأن المنظومة الصحية تعرف تحولا جذريا، وأن الأمور تسير نحو الأفضل. والجواب يكون دائماً جاهزاً: “نحن نشتغل على الأمر”. لكن من يشتغل على الألم الفوري للمريض؟ من يُرمم صبر المنتظرين؟ ومن يداوي كرامة المواطن حين يجد نفسه يُعامل كرقم في لائحة طويلة، لا أحد يملك الوقت لقراءتها؟
المفارقة أن هذا الوضع لا يقتصر على المستشفى العمومي. فحتى المصحات الخاصة التي يفترض أن تكون بديلاً لائقا، تحوّلت إلى مشاريع تجارية، لا تختلف كثيراً عن محلات بيع السيارات المستعملة. عروض وخدمات وتخفيضات، لكن حين تدفع الفاتورة، تكتشف أن ما اشتريته ليس علاجا، بل فاتورة طويلة مقابل ابتسامة محسوبة، وسرعة في “الخروج” أكثر من الحرص على الشفاء.
المرضى الذين يلجأون إلى هذه المصحات غالباً ما يخرجون منها بعلامتين: ضمادة على الجرح، وصدمة على الفاتورة. وقد يُطلب منهم أداء تكاليف لم يتم إعلامهم بها مسبقاً، أو أداء عربون قبل أن يرى الطبيب المريض. وحتى في حالات الاستعجال، لا يتم إدخال المريض أحيانا إلا بعد “ضمانات مالية”، وكأن الألم قابل للتأجيل حتى ينتهي الطرف الآخر من التفاوض.
وفي الوقت الذي تنشر فيه الدولة أرقاما تبشر بإصلاح صحي شامل، يزداد غضب الناس في الشمال. لا أحد يُنكر أن هناك خطوات رسمية، قوانين جديدة، وتغطية صحية موحدة. لكن هل التغطية كافية حين يكون الجسد عارياً من الرعاية؟ وهل تكفي النصوص حين يكون الواقع مكسوراً؟
وفي طنجة، المدينة التي تسوّق على أنها بوابة إفريقيا، ومركز اقتصادي صاعد، لا يزال مستشفى محمد الخامس يختزل الصورة المعكوسة لهذا الصعود. مواعيد معلقة، تجهيزات معطلة، ومواطنون يمضون ساعاتهم في البحث عن طبيب واحد، أو طابع إداري، أو سرير شاغر. وفي المقابل، تقارير دولية تتحدث عن التقدم، وعن الصحة، وعن المعدلات… كأن ما ينقصنا هو المزيد من التنقيط، لا المزيد من الإنسانية.
ربما تكون رتبة 82 إنجازا رقمياً. لكن ما فائدة الترتيب حين تُقاس الصحة بمدة الانتظار؟ وما قيمة التقدم حين يظل المريض عالقاً بين بيروقراطية بطيئة ونظام خاص متوحش؟ قد يتقدم المغرب في التصنيفات، لكن صحة المغاربة، على الأقل في طنجة، ما زالت في غرفة الانتظار.