في شتنبر 2013، داخل خيمة كبيرة نُصبت في حي بني مكادة، كان المشهد مهيبا. الملك محمد السادس، محاطًا بكبار رجال الدولة وبمسؤولي المدينة، قدم مشروع “طنجة الكبرى” كحلم واعد، ورؤية جديدة لمستقبل المدينة.
بعد.ذلك بسنوات قليلة، وفي لحظة بقيت محفورة في الذاكرة، مدَّ الملك يده ليسلم مفاتيح أحد المحلات لسيدة مسنة، كانت عيناها تلمعان بدموع الفرح، وكأنها لم تصدق أن سنوات من المعاناة كبائعة جوالة قد انتهت، وأن لها الآن مكانًا ثابتًا تمارس فيه تجارتها بكرامة.
كان سوق القرب بني مكادة أبرز ثمار هذا البرنامج، إذ خُصص له 626 محلًا مجهزًا بمواصفات حديثة، ضمن مشروع بلغت كلفته 74.3 مليون درهم، وامتد على مساحة 13,300 متر مربع، ليكون بديلاً حضريًا يضمن استقرار الباعة الجائلين ويضع حدًا للعشوائية التجارية في الحي.
لكن صباح الثاني والعشرين من فبراير 2025، احترق ذلك الحلم في رمشة عين. في لحظة صادمة، تحولت السوق التي كانت رمزًا للكرامة والاستقرار إلى كومة من الركام المتفحم، بعدما اندلعت النيران فجأة داخل أحد الممرات وانتشرت بسرعة رهيبة، مستفيدة من طبيعة البضائع القابلة للاشتعال والبناء المعدني الذي سرّع تفاقم الحريق.
في ذلك الوقت، كانت أبواب السوق لا تزال موصدة، إذ إن النشاط التجاري لا يبدأ عادةً إلا بعد منتصف النهار. ومع ذلك، لم يمنع ذلك ألسنة اللهب من التهام كل شيء. التجار الذين كانوا يستعدون لافتتاح محلاتهم وصلوا مذعورين، غير مصدقين أن سلعهم التي راكموها لسنوات قد تحولت إلى رماد خلال دقائق.
محمد، أحد تجار الملابس، وقف مذهولًا أمام محله الذي لم يتبق منه سوى رماد. استرجع لحظة فرحه يوم استلم مفاتيح محله الجديد، يوم شعر لأول مرة أن له عنوانًا في هذه المدينة، ثم نظر حوله اليوم فلم يجد إلا أطلالًا ودموعًا متناثرة. آخرون، مثل عبد الكريم، حاولوا يائسين اقتحام السوق لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكنهم انهزموا أمام جدار اللهب والدخان الكثيف.
رجال الإطفاء وصلوا بسرعة، لكن السوق كان كعلبة كبريت، إذ إن النيران التهمت الأقمشة والأحذية بسرعة هائلة، ما أجبرهم على استخدام كميات كبيرة من المياه والمواد العازلة لإخماد اللهب. رغم الجهود الجبارة التي بذلوها، لم يكن بالإمكان إنقاذ سوى أجزاء قليلة من السوق، فيما تحول الباقي إلى ركام متفحم.
وسط هذه الفوضى، ظهر وجه آخر للمأساة، حيث استغل بعض الأفراد الكارثة لنهب السلع التي لم تصلها النيران بعد، لكن الشرطة تمكنت من توقيف ثلاثة مشتبه بهم، فيما لا تزال التحقيقات جارية لتعقب آخرين شوهدوا وهم يغادرون السوق محملين بالبضائع.
ومع وصول العمدة منير ليموري ووالي أمن طنجة إلى الموقع، بدا المشهد مأساويًا إلى أقصى حد. تجار يبكون بحرقة، بعضهم جلس على الأرض منهارًا، وآخرون يصرخون يطالبون بإجابات حول مصيرهم المجهول.
السلطات فتحت تحقيقًا عاجلًا لكشف ملابسات الحريق، بينما يطرح الجميع سؤالًا واحدًا: هل يمكن إعادة بناء هذا السوق، أم أن هذا الفصل قد انتهى بلا رجعة؟
“لقد خسرنا كل شيء…”، قال إدريس، تاجر الأحذية، وهو ينظر إلى متجره الذي لم يتبق منه سوى رماد وحديد متفحم.
في هذا الصباح الشتوي، لم ينطفئ الحريق فقط، بل انطفأت معه أحلام مئات الأسر التي كانت ترى في هذا السوق مستقبلًا آمنًا. اليوم، بين رماد السوق المحترق، وبين صورة الملك وهو يسلم المفاتيح بأمل، تبقى الفجوة شاسعة بين ما كان وما صار، ويبقى المستقبل معلقًا بسؤال ينتظر الإجابة.