بحلول الثاني من يناير من كل سنة، تتجدد في الأذهان ذكرى حدثٍ طالما ظلّ عالقًا بين صفحات التاريخ، كأنما يشع منها ضوءٌ خافت يروي قصة حضارة ضاعت في غياهب الزمن.
ففي هذا اليوم، كان السقوط المدوّي لغرناطة، آخر معاقل المسلمين في الأندلس، ليُطفئ آخر شعاع من نور حضارةٍ امتدت لقرون، وتركت بصماتها في كل زاوية من زوايا ذلك المكان.
كانت غرناطة، المدينة الأندلسية التي تزخر بالجمال والعلم والثقافة، موطنًا للفنون والآداب، وساحةً للعقول اللامعة.
وكان قصر الحمراء، أحد عجائب العالم، شاهداً على عظمة تلك المدينة. هناك، حيث كانت أشعة الشمس تتسلل عبر الأقواس المزخرفة، وكانت الأروقة تشهد على الأحاديث العميقة في الفلسفة والعلوم. كان الصوت الذي يخرج من نبع المياه المتدفقة في حدائقها، كأنما يروي أسرار حضارة لا تُضاهى.
لكن في الثاني من يناير 1492، كان الظلام يعمّ سماء غرناطة، ويدقّ ناقوس النهاية. تساقطت أحلام الأندلس أمام جيوش الملوك الكاثوليك، إيزابيلا وفرديناند، الذين حاصروا المدينة حتى أصبح لا مجال للمقاومة، فيما كان الأمير أبو عبد الله الصغير، آخر ملوك غرناطة، يقف أمام مفاتيح مدينته، ليقرر تسليمها بعد أن انهارت أمامه أسوار الأمل.
ولم يكن هذا السقوط مجرد هزيمة عسكرية، بل كان بداية لفصل جديد مليء بالآلام والمعاناة. حيث بدأت محاكم التفتيش في تطبيق سياستها الوحشية، فتمّ إجبار المسلمين على ترك دينهم، والتهجير القسري كان مصير العديد منهم. وبالتالي أصبحت غرناطة، المدينة التي طالما كانت مركزًا للإبداع، ذكرى في قلوب من رحلوا عنها.
ومع مرور الأيام، صار الثاني من يناير يومًا لا يُنسى في الذاكرة الجماعية. ذكرى تحفر في الأعماق، تذكّر الأجيال بما كان، بما تحقق، وبما فقد.
تتردد أصوات التاريخ في الأذهان، كأنها تهمس في الآذان بأن حضارة الأندلس لم تكن مجرد واقع عاشته أمة، بل كانت حلمًا متجسدًا في شوارعها وحدائقها وأبنيتها. حلمٌ تلاشى كما يتلاشى الضباب أمام شمس الحقيقة، لكن شظاياه لا تزال تلمع في الذاكرة.
وفي هذا اليوم، يتذكر سليلو بلاد الأندلس، ليس فقط بمجدها وعظمتها، بل أيضًا بما ألمّ بها من خيانة وصراع.
يتذكرون كيف كانت تلك الأرض تحتضن تنوعًا ثقافيًا ودينيًا، وكيف كانت تحمل في طياتها أحلامًا كثيرة ضاع الكثير منها في غياهب الحرب.
وبينما تطوي الأيام صفحات التاريخ، تبقى غرناطة شاهدة على عصرٍ مضى، وشهادة حيّة على أن الحضارات لا تبنى إلا بالتسامح والوحدة، وأن نهايتها تأتي عندما يغيب هذا التوازن.