لا تحتاج طنجة إلى أن تعلن عن أمنها. فالمؤشرات التي تصدرها الهيئات الدولية، والتقارير الرسمية التي توثق مستوى الطمأنينة داخل المدينة، كافية لتؤكد أن هذا الحيز الحضري الممتد على ضفاف البحر، ظل خلال السنوات الأخيرة استثناء واضحا في زمن الارتباك السكاني والتحولات الحضرية المتسارعة.
ففي مدينة استقبلت ما يعادل تعداد مدينة كاملة خلال عقد واحد، لا يبدو الاستقرار مجرد صدفة أو نتيجة فراغ. بل هو ثمرة اشتغال متواصل على عناصر متداخلة، تنطلق من التنظيم المجالي، وتشمل الاستثمار في التكنولوجيا، ولا تنفصل عن الانتشار البشري المدروس. فالأمن هنا لم يكن مفهوما منفصلا عن محيطه، ولا سياسة عمودية تنفذ من خارج النسيج الاجتماعي، بل خيار ضمن تصور مندمج لتحصين المجال العام وتطويع التحولات لصالح المدينة.
وحين تمنح مواقع التصنيف الدولية، مثل قاعدة بيانات Numbeo، مؤشرا إيجابيا لطنجة بالمقارنة مع مدن كبرى، فإن الأمر لا يرتبط بانطباعات عابرة أو تصنيفات دعائية، بل باستحقاق موضوعي نابع من بنية تقنية وميدانية تشتغل بتؤدة، ولا تعد بأكثر مما تنفذ.
ففي مدينة تم فيها تركيب أكثر من 800 كاميرا مراقبة عالية الدقة، وتوسعت فيها شبكات الضبط حول المنشآت الحيوية، لم يكن الغرض خلق شعور عام بالمراقبة، بل تمكين السلطات من الاستباق لا الانتظار، ومن التدخل لا الرد فقط.
وما تحقق في السنوات الأخيرة على مستوى التحكم في خريطة الجريمة داخل المدينة، يؤكده تراجع المؤشرات المرتبطة بالأفعال العنيفة، وتنامي القدرات الاستباقية لمصالح الأمن.
فالتقرير السنوي للمديرية العامة للأمن الوطني يشير بوضوح إلى انخفاض ملموس في معدلات الجريمة الجسيمة بطنجة، مقارنة بمدن مماثلة من حيث الكثافة، مع تسجيل معدلات زجر تجاوزت 95 في المئة وطنيا، وهي أعلى نسبة منذ عقدين.
هذا الأداء لم يأت من فراغ، بل من استثمار هادئ في تقوية البنيات المحلية، وتجهيز الدوائر الأمنية، وتوسيع شبكات التدخل والتواصل، دون اللجوء إلى الحلول الأمنية القصوى.
لكن في المقابل، ما زالت بعض ردود الفعل، كلما وقعت حادثة فردية أو جريمة ذات طابع شخصي، تسائل الأمن وكأن المطلوب منه أن يحول دون كل ما هو محتمل.
وبينما تقع هذه الحوادث في فضاءات خاصة أو ضمن نزاعات عائلية، يستدعى سؤال “أين الأمن؟” بنبرة توحي بأن الأمن مشروع مراقبة للنوايا، لا تدبير عقلاني للمجال. وفي مثل هذا النوع من القراءات، يغيب الفهم لصالح الانفعال، وتختزل منظومة كاملة في واقعة لا تكشف إلا عن هامشها.
ومع ذلك، لا تدعي طنجة الكمال، ولا تعرض نفسها كمدينة مثالية. لكنها، ببساطة، حاضرة تعرف كيف تتطور دون أن تفقد صوابها، وتستوعب الوافدين دون أن تتنكر لأمن سكانها.
وفي زمن يميل إلى التهويل، تكفي المدينة صفة واحدة: أنها لم تنكسر. وأن كل من دخلها، ظل آمنا، بما يكفي لكي يصدق أن الاستقرار لا يفرض، بل يبنى.