تحت ضوء الشمس المنكسر على الرخام الرمادي، يتوقف المارة عند الساحة المطلة على الميناء، بعضهم يلتقط الصور بهواتفهم، واخرون يتجولون بهدوء كما لو انهم يكتشفون المكان لاول مرة.
ولفتت الحلة الجديدة لساحة فارو، او ما يعرف محليا بـ”سور المعكازين”، الانظار بفضل تفاصيلها الدقيقة، حيث استعادت المدافع موقعها، وتم تنسيق المسارات والمقاعد والمزهريات بعناية.
اسم “ساحة فارو” لم يكن وليد الصدفة، بل هو امتداد لاتفاقية توأمة قديمة ابرمت سنة 1954 بين مدينة طنجة ومدينة فارو البرتغالية، لتكون من اقدم اتفاقيات التوأمة التي شهدتها المدينة.
وقد كان اختيار هذا الاسم بمثابة اشادة برابط ثقافي وتاريخي يعكس انفتاح طنجة على محيطها الايبيري، لكنه لم يلغ التداول الشعبي الراسخ لاسم “سور المعكازين”، الذي ما زال شائعا الى اليوم.
ويرتبط هذا الاسم، حسب ما تُجْمِع عليه الروايات المتداولة، بعادة الجلوس المطوّل فوق السور، حيث كان كبار السن يتخذونه مجلسا هادئا، يستندون فيه إلى عكازاتهم ويتبادلون أطراف الحديث، في مشهد تحوّل إلى علامة حضرية راسخة في وجدان الطنجاويين.
غير أن الاسم، رغم ثباته في الطوبونيميا الطنجاوية، غالبا ما يحرّف خارج طنجة الى “سور المعاكيز”، بسبب اختلاف اللهجات وعدم ادراك دلالة المصطلح المحلي الدقيق.
واليوم، وبعد سنوات من التاكل البصري، بات هذا الفضاء اكثر نظافة وتنظيما، مع لمسة عمرانية هادئة تحترم رمزيته وتفتحه من جديد امام زواره. المقاعد الحجرية اعيد ترتيبها، والممرات رصفت برخام متجانس، في حين توزعت عناصر التزيين الاخضر والانارة بشكل يمنح الموقع تناسقا بصريا مريحا.
في المساء، تتحول الساحة الى نقطة جذب حقيقية، يصعب فيها احيانا ايجاد مكان شاغر للجلوس. حيث يعكس الاقبال الكبير، رغم مرور ايام قليلة فقط على اعادة فتحها، ارتباط الطنجاويين بهذا الفضاء، واستعدادهم لاستعادته كجزء من يومهم العادي. اطفال يقفزون قرب المدافع، سياح يوثقون زيارتهم، ومجموعات شبابية تتوزع على المقاعد الجديدة. التفاصيل البسيطة اضفت على المكان جاذبية واضحة، واعادت اليه روحه كفضاء للراحة واللقاء والانتماء.
وعلى مسافة قصيرة من هذا الفضاء، تتخذ ساحة الامم موقعها في قلب المدينة، حيث تشهد بدورها اشغال تهيئة متواصلة. فخلف الحواجز الحديدية، تنتشر مواد البناء ومعدات الاشغال، بينما تتقدم وتيرة التبليط واعادة تهيئة الارصفة والمساحات المخصصة للراجلين، وسط حركة سير طبيعية في محيط الساحة.
ولفترة طويلة، احتفظت ساحة الامم بشكلها القديم رغم موقعها الحيوي، وهو ما اثر تدريجيا على جاذبيتها. بينما تعيد الاشغال الجارية اليوم صياغة هذا الفضاء المركزي، بما يعزز من تناسق المجال العام للمدينة، ويوفر للمارة وزوار المنطقة مركزا حضريا اكثر ملاءمة من حيث البنية والمظهر.
شكل الساحة الجديدة بدأ يتبلور، من خلال اعادة هيكلة المسارات، وترتيب الفضاءات الخضراء، وتحديث التجهيزات الحضرية.
بالتوازي مع ذلك، انطلقت خلال الاسابيع الاخيرة ايضا الاشغال التمهيدية لاعادة تهيئة كورنيش المدينة، على امتداد الواجهة البحرية. معدات الحفر والتشوير الهندسي بدأت تظهر تدريجيا، في ما يعد بداية لمسار تثمين احد اهم فضاءات التنزه المفتوحة في طنجة.
ويندرج هذا التحرك في سياق مواصلة تعزيز الدينامية الحضرية التي شهدتها المدينة خلال السنوات الماضية، خصوصا منذ اطلاق برنامج “طنجة الكبرى”، الذي شكل نقطة تحول كبيرة على مستوى البنيات التحتية، والمرافق العمومية، والربط الطرقي، وتطوير الفضاءات السياحية.
وتأتي المساعي الجارية حاليا لتعزيز هذا التوجه، من خلال اعادة تاهيل وتثمين مكونات حضرية قائمة، واعادة صوغها وفق رؤية اكثر دقة تتلاءم مع الادوار الجديدة المنتظرة من المدينة، لاسيما في ظل استحقاقات كبرى تلوح في الافق، وفي مقدمتها تنظيم كاس افريقيا للامم سنة 2025، وكاس العالم سنة 2030 بشراكة مع اسبانيا والبرتغال.
تتحرك طنجة بخطى متوازنة بين ما هو وظيفي وما هو جمالي، دون ان تفقد علاقتها بهويتها الخاصة. سواء في الساحات او على طول الكورنيش، تبرز ملامح اشتغال تدريجي يعيد الاعتبار للمجال، ويمنح المدينة مداخل بصرية تتناسب مع تحولها المستمر كمركز حضري وسياحي.
وتواصل طنجة، التي عرفت كيف تفتح افاقها خلال العقد الماضي، اليوم ترتيب وجهها الحضري، برؤية تراعي الموقع والتاريخ والدور، وتمنح للساكنة والزائرين على السواء تجربة اكثر انسجاما مع طموحات مدينة تنظر الى المستقبل بثقة.