طنجة ليست فقط مدينة في الشمال، بل فكرة في الوعي الجمعي: فكرة الانفتاح، والعبور، والتعدد. وكل صيف، حين تعود الجموع من الداخل والخارج لتملأ شوارعها وشواطئها، نفاجأ بان بعضا من هذا الانفتاح يتداعى تحت وقع ردات فعل لا تخلو من السخط، بل احيانا من كراهية مضمرة.
نعم، هناك مشاهد منفلتة تثير الاستياء وتشعر كثيرين بان المدينة تثقل بكثافة لا تحتمل. من الشواطئ الى الكورنيش، نرى اسرا تفرغ سياراتها من تجهيزات منزلية كاملة: طناجر الضغط، قارورات الغاز، الموائد، والزرابي، وكانها في نزهة دائمة الاقامة. تنتصب الخيام العشوائية باغطية متعددة الالوان، ويعلق الغسيل على الحبال بين المظلات، وتتحول بعض جنبات البحر الى مطابخ مفتوحة على الملأ.
ويزداد الامر ارباكا حين يستباح الفضاء العام دون اعتبار لبقية المصطافين، وتعلو اصوات مكبرات الصوت، وتغيب ابسط قواعد الاحترام المتبادل.
غير ان ما ينبغي التوقف عنده، هو التحول الخطير لهذه المشاهد الى مبررات مسبقة الصنع لتكريس خطابات الاقصاء والتمييز. بدل محاسبة السلوك، يختزل الوافد ـ اكان من داخل المغرب او خارجه ـ في صورة مشوهة، ويحمل وزر التشويه البصري، والازدحام، وحتى التدهور الاخلاقي المفترض. وهذا الانزلاق السهل من النقد الاجتماعي الى العنصرية المقنعة، هو ما يهدد فعليا هوية طنجة ومكانتها كمدينة جامعة، لا طاردة.
ومثلما يساء فهم الوافد المغربي، يساء ايضا فهم المهاجر الافريقي. في طنجة، حيث يعيش الالاف من ابناء افريقيا جنوب الصحراء، برزت في السنوات الاخيرة نبرة جديدة: تحمل هؤلاء مسؤولية مشاهد انحراف جزئية، يتم تضخيمها لتصبح ذريعة لمشاعر عدائية.
يقال ان بعض النساء القادمات من دول افريقية يحولن صالونات تجميل الى واجهات لاغراض لا علاقة لها بالتزيين، وان بعض الشباب يتورطون في جرائم صغيرة ترتبط بالمخدرات او العنف، لتبنى على ذلك وصمة جماعية.
هكذا، يحول الانحراف المعزول الى قاعدة، وتطمس المساهمات الايجابية لاشخاص يعيلون اسرا، ويشتغلون في المطاعم والمقاهي، ويحترمون القوانين، ويتعاملون بلباقة تفوق احيانا ما نلقاه من ابناء جلدتنا.
ان تعميم السوء وتحويل الاستثناء الى مبرر للكراهية، ليس فقط ظلما للضحايا الحقيقيين للعنصرية، بل ايضا تواطؤا مع الخطاب الكسول الذي يخلط بين النقد والوصم.
من حق اي مدينة ان تطالب باحترامها، ومن واجب الدولة ان تنظم الفضاءات وتحميها من الفوضى، لكن ليس من حق اي طرف ان يجرم الاخر بناء على شكله او اصله او طريقة حديثه.
ان العنصرية ليست غضبا مشروعا، بل استعلاء متخفيا في قناع الدفاع عن الهوية. والهوية الحقيقية لطنجة لا تبنى على الاقصاء، بل على التعدد الذي شكلها منذ قرون. فهي المدينة التي مر منها الاسبان والبرتغاليون والانجليز، وسكنها اليهود والمسلمون والمسيحيون، واحتضنت الافارقة والاوروبيين والمغاربة على حد سواء، دون ان تفقد روحها ولا شموخها.
نعم الصيف جاء،. لكن يجب ان ياتي معه وعي جماعي بان العيش المشترك ليس شعارا يردد في الندوات، بل مسؤولية تمارس في الشارع، على الشاطئ، في المقاهي، وفي نظرات الناس لبعضهم البعض. لا مكان للعنصرية في طنجة، لا في اللسان، ولا في القلب، ولا في المؤسسات. ومن لم يعتد على التعدد، فالمكان اوسع منه، والمدينة اغنى مما يطيق.