ليست كل السلوكات تُقوّم بالموعظة، ولا كل الفوضى تُعالج بالحملات التحسيسية. فبعض الاختلالات، حين تتكرر وتتحول إلى مشهد يومي، لا ينفع معها النداء الأخلاقي، بل تحتاج إلى أدوات الدولة: القانون، المراقبة، والغرامة. وما لا يُزع بالخطاب التوعوي، يُزع بمنطق الردع المسؤول.
في كل مرة ننتقد فيها تراجع النظافة، أو انتشار الفوضى في الفضاءات العامة، نُسارع إلى تحميل المسؤولية للمجلس الجماعي. نلومه على ضعف الخدمات، على تأخر الشاحنات، على غياب الحاويات، وعلى اختلالات التدبير.
وهذا في مجمله نقد مشروع، لكن المشكل لا يكمن دائما في الغياب، بل أحيانا في الحضور الهش. فالمجلس الذي نجلده حين يتقاعس، ينبغي أن يُسائل حين يُنجز دون أن يحمي، وحين يُهيئ دون أن يُنظم، وحين يُخصص الميزانية دون أن يُفعل أدوات الزجر.
وفي مدينة مثل طنجة، لم تعد المشكلة في نقص التجهيزات. فالمجال الحضري يعرف منذ سنوات توسعا ملحوظا، رُصدت له اعتمادات ضخمة، وأُنجزت فيه مساحات خضراء، وحدائق، وأرصفة، وتجهيزات عمومية حديثة.
والحقيقة أن طنجة اليوم تتوفر على بنية تحتية ومرافق حضرية تضاهي، بل في بعض الجوانب، تفوق ما تتوفر عليه مدن أوروبية عديدة متوسطة الحجم.
ومع ذلك، تبدو تلك المدن أكثر نظافة ونظاما، بينما لا تزال الفوضى البصرية وسوء الاستعمال يشوهان وجه طنجة، بفعل الاستهتار اليومي الذي لا يجد من يوقفه.
لا يتعلق الأمر بضعف الوعي وحده، بل بغياب منظومة زجرية فعالة. فما لا يضبطه الضمير، يُضبط بالقانون. وما لا يُزع بالتحسيس، يُزع بالغرامة. والتجربة الأوروبية تؤكد ذلك بوضوح لا لبس فيه.
فحين يعيش المواطن المغاربي، في ضواحي باريس أو مارسيليا، أو في أحياء مدريد وبرشلونة، أو في أزقة ميلانو وتورينو، لا يتحول فجأة إلى كائن منضبط بالفطرة. لكنه يعيش في فضاء لا يسمح له بتجاوز القواعد. يُراقب، يُغرم، ويُحاسب بصرامة، فيلتزم. السلوك نفسه، لكن الفرق في النظام.
بل أكثر من ذلك، حتى المواطن الأوروبي، سواء في ألمانيا أو بلجيكا أو هولندا، لا يعود أكثر تهذيبا في طبيعته، لكنه يُعيد تشكيل سلوكه الحضري بفضل ما راكمته تلك المجتمعات من منظومات قانونية لا تتسامح مع الإخلال بالمجال العام. فما يبدو لنا اليوم “حضارة”، هو في الواقع نتيجة مباشرة لعقود من الردع المنظم، لا لبرامج التوعية وحدها.
هذا ما ينقصنا. ليس العبرة بما ننجزه من مشاريع، بل بما نفعله لحمايتها من التبديد الجماعي. طنجة لا تحتاج اليوم إلى مزيد من الحدائق إن كانت ستُداس، ولا إلى مزيد من الحاويات إن كانت ستُحاصر بالأكياس العشوائية.
المطلوب هو التفعيل الحقيقي لمقتضيات الشرطة الإدارية، لتحرير المخالفات، ومباشرة المساطر، وإثبات أن الفضاء العمومي ليس ملكا للعبث، بل مسؤولية مشتركة يخضع فيها الجميع لنفس القواعد.
فالردع لا يناقض الحرية، بل يحميها. والانضباط ليس ناتجا عن الوعي فقط، بل هو نتيجة تراكم طويل من القواعد المفروضة بوضوح. والمجلس الجماعي، حين لا يُقرن الإنجاز بالحماية، يُفرّط في مكتسباته، ويفتح الباب أمام انهيارها المتكرر.
إن ما لا يُزع بالقرآن، يُزع بالسلطان. لا سلطان التعسف، بل سلطان القانون حين يُطبّق بعدل، ويُفعّل باستمرار، ولا يُستثنى منه أحد.
فالسلطة التنظيمية ليست نقيضا للمواطنة، بل شرط من شروطها. وما لا تُبقيه التربية، تُبقيه الغرامة حين تكون صريحة، لا شكلية.
وما لا تفرضه الأخلاق الفردية، يفرضه النظام الجماعي حين يكون واضحا، نافذا، ومسنودا بإرادة لا تتسامح مع الفوضى. المدن لا تُبنى بالإسمنت فقط، بل بالانضباط. والكرامة لا تصونها المواعظ، بل آليات الحماية الفعلية التي تجعل من احترام المجال العام قاعدة لا خيارا.